صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( 54 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله - تعالى ذكره - بهذه الآية .

فقال بعضهم : عنى بها الذين نهى الله نبيه عن طردهم . وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه .

وقال آخرون : عنى بها قوما استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذنوب أصابوها عظام ، فلم يؤيسهم الله من التوبة .

ذكر من قال ذلك :

13291 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا سفيان ، عن مجمع قال سمعت ماهان قال : جاء قوم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أصابوا ذنوبا عظاما . قال ماهان : فما إخاله رد عليهم شيئا . قال : فأنزل [ ص: 391 ] الله - تعالى ذكره - هذه الآية : " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم " الآية .

13292 - حدثنا هناد قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن مجمع ، عن ماهان : أن قوما جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد إنا أصبنا ذنوبا عظاما ! فما إخاله رد عليهم شيئا ، فانصرفوا فأنزل الله - تعالى ذكره - : " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " . قال : فدعاهم فقرأها عليهم .

13293 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن مجمع التميمي قال سمعت ماهان يقول : فذكر نحوه .

وقال آخرون : بل عني بها قوم من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم ، فكان ذلك منهم خطيئة ، فغفرها الله لهم وعفا عنهم ، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم . وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد ، وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية ، قول من قال : المعنيون بقوله : " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم " غير الذين نهى الله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طردهم . لأن قوله : " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا " خبر مستأنف بعد تقضي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله [ ص: 392 ] عليه وسلم عن طردهم . ولو كانوا هم ، لقيل : " وإذا جاءوك فقل سلام عليكم " . وفي ابتداء الله الخبر عن قصة هؤلاء ، وتركه وصل الكلام بالخبر عن الأولين ، ما ينبئ عن أنهم غيرهم .

فتأويل الكلام إذا إذ كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك ، يا محمد ، القوم الذين يصدقون بتنزيلنا وأدلتنا وحججنا ، فيقرون بذلك قولا وعملا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم ، هل لهم منها توبة ، فلا تؤيسهم منها ، وقل لهم : " سلام عليكم " أمنة الله لكم من ذنوبكم ، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها " كتب ربكم على نفسه الرحمة " يقول : قضى ربكم الرحمة بخلقه " أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم " .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك :

فقرأته عامة قرأة المدنيين : ( أنه من عمل منكم سوءا ) ، فيجعلون " أن " منصوبة على الترجمة بها عن " الرحمة " ( ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ) ، على ائتناف " إنه " بعد " الفاء " فيكسرونها ، ويجعلونها أداة لا موضع لها ، بمعنى : فهو له غفور رحيم أو : فله المغفرة والرحمة .

وقرأهما بعض الكوفيين بفتح " الألف " منهما جميعا ، بمعنى : كتب ربكم على نفسه الرحمة ثم ترجم بقوله : أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، عن الرحمة ، ( فأنه غفور رحيم ) ، فيعطف ب " أنه " الثانية على " أنه " الأولى ، ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت . [ ص: 393 ]

وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة : بكسر " الألف " من " إنه " و " إنه " على الابتداء ، وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما .

قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأهما بالكسر : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه ) ، على ابتداء الكلام ، وأن الخبر قد انتهى عند قوله : " كتب ربكم على نفسه الرحمة " ثم استؤنف الخبر عما هو فاعل - تعالى ذكره - بمن عمل سوءا بجهالة ثم تاب وأصلح منه .

ومعنى قوله : " إنه من عمل منكم سوءا بجهالة " إنه من اقترف منكم ذنبا ، فجهل باقترافه إياه ثم تاب وأصلح " فإنه غفور " لذنبه إذا تاب وأناب ، وراجع العمل بطاعة الله ، وترك العود إلى مثله ، مع الندم على ما فرط منه " رحيم " بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

13294 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عثمان ، عن مجاهد : " من عمل منكم سوءا بجهالة " قال : من جهل : أنه لا يعلم حلالا من حرام ، ومن جهالته ركب الأمر .

13295 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك مثله .

13296 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : [ ص: 394 ] " يعملون السوء بجهالة " قال : من عمل بمعصية الله ، فذاك منه جهل حتى يرجع .

13297 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا بكر بن خنيس ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " من عمل منكم سوءا بجهالة " قال : كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل .

13298 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال : كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال : " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية