[ ص: 477 ] [ ص: 478 ] القول في تأويل قوله (
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( 76 ) )
قال
أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : فلما واراه الليل وغيبه .
يقال منه : " جن عليه الليل " و " جنه الليل " و " أجنه " و " أجن عليه " . وإذا ألقيت " على " كان الكلام بالألف أفصح منه بغير " الألف " " أجنه الليل " أفصح من " أجن عليه " و " جن عليه الليل " أفصح من " جنه " وكل ذلك مقبول مسموع من
العرب . " جنه الليل " في أسد " وأجنه
[ ص: 479 ] وجنه " في تميم . والمصدر من : " جن عليه " " جنا وجنونا وجنانا " ومن " أجن " " إجنانا " . ويقال : " أتى فلان في جن الليل " . و " الجن " من ذلك لأنهم استجنوا عن أعين بني
آدم فلا يرون . وكل ما توارى عن أبصار الناس ، فإن
العرب تقول فيه : " قد جن " ومنه قول
الهذلي :
وماء وردت قبيل الكرى وقد جنه السدف الأدهم
وقال
عبيد :
وخرق تصيح البوم فيه مع الصدى مخوف إذا ما جنه الليل مرهوب
ومنه : " أجننت الميت " إذا واريته في اللحد ، و " جننته " وهو نظير
[ ص: 480 ] " جنون الليل " في معنى غطيته . ومنه قيل للترس " مجن " لأنه يجن من استجن به فيغطيه ويواريه .
وقوله : "
رأى كوكبا " يقول : أبصر كوكبا حين طلع "
قال هذا ربي " فروي عن
ابن عباس في ذلك ، ما : -
13462 - حدثني به
المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس قوله : "
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " يعني به الشمس والقمر والنجوم "
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي " فعبده حتى غاب ، فلما غاب قال : لا أحب الآفلين " فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي " فعبده حتى غاب ، فلما غاب قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر " فعبدها حتى غابت ، فلما غابت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون .
13463 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : "
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين " علم أن ربه دائم لا يزول . فقرأ حتى بلغ : "
هذا ربي هذا أكبر " رأى خلقا هو أكبر من الخلقين الأولين وأنور .
وكان سبب قيل
إبراهيم ذلك ، ما : -
13464 - حدثني به
محمد بن حميد قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل قال حدثني
محمد بن إسحاق فيما ذكر لنا ، والله أعلم أن
آزر كان رجلا من أهل
[ ص: 481 ] كوثى ، من
قرية بالسواد ، سواد الكوفة ، وكان إذ ذاك ملك المشرق
النمرود ، فلما أراد الله أن يبعث
إبراهيم [ عليه السلام ، خليل الرحمن ، حجة على قومه ] ، ورسولا إلى عباده ، ولم يكن فيما بين
نوح وإبراهيم نبي إلا
هود وصالح ، فلما تقارب زمان
إبراهيم الذي أراد الله ما أراد ، أتى أصحاب النجوم
نمرود فقالوا له : تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له "
إبراهيم " يفارق دينكم ، ويكسر أوثانكم ، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا . فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم
لنمرود ، بعث
نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده - إلا ما كان من أم
إبراهيم امرأة
آزر ، فإنه لم يعلم بحبلها ، وذلك أنها كانت امرأة حدثة ، فيما يذكر ، لم تعرف الحبل في بطنها ، ولما أراد الله أن يبلغ بولدها - يريد أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة ، حذرا على ملكه . فجعل لا تلد امرأة غلاما في ذلك الشهر من تلك السنة ، إلا أمر به فذبح . فلما وجدت أم
إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها ، فولدت فيها
إبراهيم ، وأصلحت من شأنه ما يصنع
[ ص: 482 ] بالمولود ، ثم سدت عليه المغارة ، ثم رجعت إلى بيتها ، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل ، فتجده حيا يمص إبهامه ، يزعمون ، والله أعلم ، أن الله جعل رزق
إبراهيم فيها وما يجيئه من مصه . وكان
آزر ، فيما يزعمون ، سأل أم
إبراهيم عن حملها ما فعل ، فقالت : ولدت غلاما فمات ! فصدقها ، فسكت عنها . وكان اليوم ، فيما يذكرون ، على إبراهيم في الشباب كالشهر ، والشهر كالسنة . فلم يلبث
إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمه : أخرجيني أنظر ! فأخرجته عشاء فنظر ، وتفكر في خلق السماوات والأرض ، وقال : " إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ، ما لي إله غيره " ! ثم نظر في السماء فرأى كوكبا ، قال : "
هذا ربي " ثم اتبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب ، فلما أفل قال : "
لا أحب الآفلين " ثم طلع القمر فرآه بازغا ، قال : "
هذا ربي " ثم اتبعه ببصره حتى غاب ، فلما أفل قال : "
لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " ! فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس ، أعظم الشمس ، ورأى شيئا هو أعظم نورا من كل شيء رآه قبل ذلك ، فقال : "
هذا ربي هذا أكبر " ! فلما أفلت قال : "
يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " . ثم رجع
إبراهيم إلى أبيه
آزر وقد استقامت وجهته ، وعرف ربه ، وبرئ من دين قومه ، إلا أنه لم يبادئهم بذلك . وأخبر أنه ابنه ، وأخبرته أم
إبراهيم أنه ابنه ، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه ، فسر بذلك
آزر وفرح فرحا شديدا . وكان
آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدونها ، ثم يعطيها
إبراهيم يبيعها ، فيذهب بها إبراهيم ، فيما يذكرون ، فيقول : " من يشتري ما
[ ص: 483 ] يضره ولا ينفعه " فلا يشتريها منه أحد . فإذا بارت عليه ، ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رءوسها ، وقال : " اشربي " استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة ، حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته ، من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك .
قال
أبو جعفر : وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن
ابن عباس وعمن روي عنه ، من أن
إبراهيم قال للكوكب أو للقمر : "
هذا ربي " وقالوا : غير جائز أن يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة ، أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلا وهو لله موحد ، وبه عارف ، ومن كل ما يعبد من دونه بريء . قالوا : ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر ، لم يجز أن يختصه بالرسالة ، لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله ، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة ، فيحابيه باختصاصه بالكرامة . قالوا : وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه ، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة . وزعموا أن خبر الله عن قيل
إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس : "
هذا ربي " لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه ، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه ، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام ، إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأ وأحسن وأبهج من الأصنام ، ولم تكن مع ذلك معبودة ، وكانت آفلة زائلة غير دائمة ، والأصنام التي [ هي ] دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم ، أحق أن لا تكون معبودة
[ ص: 484 ] ولا آلهة . قالوا : وإنما قال ذلك لهم ، معارضة ، كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضا له في قول باطل قال به بباطل من القول ، على وجه مطالبته إياه بالفرقان بين القولين الفاسدين عنده ، اللذين يصحح خصمه أحدهما ويدعي فساد الآخر .
وقال آخرون منهم : بل ذلك كان منه في حال طفولته ، وقبل قيام الحجة عليه . وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان .
وقال آخرون منهم : إنما معنى الكلام : أهذا ربي ؟ على وجه الإنكار والتوبيخ ، أي : ليس هذا ربي . وقالوا : قد تفعل
العرب مثل ذلك ، فتحذف " الألف " التي تدل على معنى الاستفهام . وزعموا أن من ذلك قول الشاعر :
رفوني وقالوا : يا خويلد ، لا ترع ! فقلت ، وأنكرت الوجوه : هم هم ؟
يعني : أهم هم ؟ قالوا : ومن ذلك قول
أوس :
لعمرك ما أدري ، وإن كنت داريا ، شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
[ ص: 485 ]
بمعنى :
أشعيث بن سهم ؟ فحذف " الألف " ونظائر ذلك . وأما تذكير " هذا " في قوله : " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " فإنما هو على معنى : هذا الشيء الطالع ربي .
قال
أبو جعفر : وفي خبر الله تعالى عن قيل
إبراهيم حين أفل القمر : "
لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم ، وأن الصواب من القول في ذلك ، الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه ، والإعراض عما عداه .
وأما قوله : " فلما أفل " فإن معناه : فلما غاب وذهب ، كما : -
13465 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل قال قال
ابن إسحاق : " الأفول " الذهاب .
يقال منه : " أفل النجم يأفل ويأفل أفولا وأفلا " إذا غاب ، ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ، ولا بالآفلات الدوالك
ويقال : " أين أفلت عنا " بمعنى : أين غبت عنا ؟
[ ص: 486 ]