القول في تأويل قوله تعالى (
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ( 56 ) )
يعني بقوله : ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم .
وأصل " البعث " إثارة الشيء من محله . ومنه قيل : " بعث فلان راحلته " إذا أثارها من مبركها للسير ، كما قال الشاعر :
فأبعثها وهي صنيع حول كركن الرعن ، ذعلبة وقاحا
[ ص: 85 ] و" الرعن " : منقطع أنف الجبل ، و" الذعلبة " : الخفيفة ، و" الوقاح " : الشديدة الحافر أو الخف . ومن ذلك قيل : " بعثت فلانا لحاجتي " ، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها . ومن ذلك قيل ليوم القيامة : " يوم البعث " ، لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب .
يعني بقوله : ( من بعد موتكم ) ، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم .
وقوله : ( لعلكم تشكرون ) ، يقول : فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم ، بإحيائي إياكم ، استبقاء مني لكم ، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم ، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم ، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم .
وهذا القول على تأويل من تأول قوله : ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم .
وقال آخرون : معنى قوله : ( ثم بعثناكم ) ، أي بعثناكم أنبياء .
955 - حدثني بذلك
موسى بن هارون قال ، حدثنا
عمرو بن حماد قال ، حدثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي .
قال
أبو جعفر : وتأويل الكلام على ما تأوله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : فأخذتكم الصاعقة ، ثم أحييناكم من بعد موتكم ، وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم ، ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون .
وزعم
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير ، والمؤخر الذي معناه التقديم .
956 - حدثنا بذلك
موسى قال ، حدثنا
عمرو بن حماد قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي .
وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه ، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته . والواجب على تأويل
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي الذي حكيناه عنه ، أن يكون معنى قوله : ( لعلكم تشكرون ) ، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء .
[ ص: 86 ] وكان سبب قيلهم
لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوه له ، من قولهم : (
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ، ما : -
957 - حدثنا به
محمد بن حميد قال ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل ، عن
محمد بن إسحاق قال : لما رجع
موسى إلى قومه ، ورأى ما هم فيه من عبادة العجل ، وقال لأخيه
وللسامري ما قال ، وحرق العجل وذراه في اليم ، اختار
موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله عز وجل ، فتوبوا إليه مما صنعتم ، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ; صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم . فخرج بهم إلى
طور سيناء لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم . فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمرهم به ، وخرجوا للقاء ربه : يا
موسى ، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا ، قال : أفعل . فلما دنا
موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا
موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا . وكان
موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني
آدم أن ينظر إليه . فضرب دونه الحجاب . ودنا القوم ، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم
موسى يأمره وينهاه : افعل ، ولا تفعل . فلما فرغ إليه من أمره ، انكشف عن
موسى الغمام . فأقبل إليهم ، فقالوا
لموسى : (
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ، فأخذتهم
[ ص: 87 ] الرجفة - وهي الصاعقة - [ فافتلتت أرواحهم ] فماتوا جميعا . وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ! قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا ؟ - أي : إن هذا لهم هلاك ، اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير ، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد ! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا ؟ ( إنا هدنا إليك ) . فلم يزل
موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه ، حتى رد إليهم أرواحهم ، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم .
958 - حدثني
موسى بن هارون قال ، حدثنا
عمرو بن حماد قال ، حدثنا
أسباط بن نصر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل ، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به ، أمر الله تعالى
موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا ، فاختار
موسى قومه سبعين رجلا على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا . فلما أتوا ذلك المكان قالوا : " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " ، فإنك قد كلمته فأرناه : فأخذتهم الصاعقة فماتوا . فقام
موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ فأوحى الله إلى
موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل ، فذلك حين يقول
موسى : (
إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ إلى قوله ]
[ ص: 88 ] (
إنا هدنا إليك ) [ الأعراف : 155 - 156 ] . [ يقول تبنا إليك ] . وذلك قوله : (
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة ) . ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ، فقالوا : يا
موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك ، فادعه يجعلنا أنبياء ! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء ، فذلك قوله : (
ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا .
959 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد : قال لهم
موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح ، قد كتب فيها التوراة ، فوجدهم يعبدون العجل ، فأمرهم بقتل أنفسهم ، ففعلوا ، فتاب الله عليهم - ، : إن هذه الألواح فيها كتاب الله ، فيه أمره الذي أمركم به ، ونهيه الذي نهاكم عنه . فقالوا : ومن يأخذه بقولك أنت ! لا والله حتى نرى الله جهرة ، حتى يطلع الله إلينا فيقول : هذا كتابي فخذوه ، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا
موسى ، فيقول : هذا كتابي فخذوه ؟ وقرأ قول الله تعالى : (
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ، قال : فجاءت غضبة من الله ، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة ، فصعقتهم فماتوا أجمعون . قال : ثم أحياهم الله من بعد موتهم ، وقرأ قول الله تعالى : (
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) . فقال لهم
موسى : خذوا كتاب الله . فقالوا : لا . فقال : أي شيء أصابكم ؟ قالوا : أصابنا أنا متنا ثم حيينا . قال : خذوا كتاب الله . قالوا : لا . فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل
[ ص: 89 ] فوقهم .
960 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا
عبد الرزاق قال ، أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في
قوله : ( فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، قال : أخذتهم الصاعقة ، ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم .
961 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
إسحاق قال ، حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس في قوله : (
فأخذتهم الصاعقة ) ، قال : هم السبعون الذين اختارهم
موسى فساروا معه . قال : فسمعوا كلاما ، فقالوا : (
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) . قال : فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول : ماتوا - فذلك قوله : (
ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، فبعثوا من بعد موتهم ، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم ، فبعثوا لبقية آجالهم .
فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا
لموسى : (
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك
لموسى ، تقوم به حجة فيسلم له . وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه ، فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة ، فالصواب من القول فيه أن يقال : إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم
موسى أنهم قالوا له : (
يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ، كما أخبر عنهم أنهم قالوه . وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات ، توبيخا لهم في كفرهم
بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قامت حجته على من احتج به عليه ، ولا حاجة لمن
[ ص: 90 ] انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك . وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها ، وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال .