القول في تأويل قوله (
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى ، يشغله بكفره وصده عن سبيله ، ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه ، حرجا .
و " الحرج " أشد الضيق ، وهو الذي لا ينفذه ، من شدة ضيقه ، وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة ، ولا يدخله نور الإيمان ، لرين الشرك عليه . وأصله من " الحرج " ، و " الحرج " جمع " حرجة " ، وهي الشجرة الملتف بها
[ ص: 104 ] الأشجار ، لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها ، كما : -
13862 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
الحجاج بن المنهال قال : حدثنا
هشيم قال : حدثنا
عبد الله بن عمار رجل من
أهل اليمن عن
أبي الصلت الثقفي : أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الآية : (
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) بنصب الراء . قال : وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ضيقا حرجا " . قال
صفوان : فقال
عمر : ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا ، وليكن مدلجيا . قال : فأتوه به . فقال له
عمر : يا فتى ، ما الحرجة ؟ قال : " الحرجة " فينا ، الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء . قال : فقال
عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .
13863 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : (
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) ، يقول : من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقا ، والإسلام واسع . وذلك حين يقول : (
وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، [ سورة الحج : 78 ] ، يقول : ما جعل
[ ص: 105 ] عليكم في الإسلام من ضيق .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال : بعضهم معناه : شاكا .
ذكر من قال ذلك :
13864 - حدثنا
عمران بن موسى قال : حدثنا
عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا
حميد ، عن
مجاهد : ( ضيقا حرجا ) قال : شاكا .
13865 - حدثني
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : ( ضيقا حرجا ) أما " حرجا " ، فشاكا .
وقال آخرون : معناه : ملتبسا .
ذكر من قال ذلك :
13866 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : (
يجعل صدره ضيقا حرجا ) ، قال : ضيقا ملتبسا .
13867 - حدثنا
عبد الوارث بن عبد الصمد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن
الحسن ، عن
قتادة أنه كان يقرأ : ( ضيقا حرجا ) ، يقول : ملتبسا .
وقال آخرون : معناه : أنه من شدة الضيق لا يصل إليه الإيمان .
ذكر من قال ذلك :
13868 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا
جرير ، عن
حبيب بن أبي عمرة ، عن
سعيد بن جبير : (
يجعل صدره ضيقا حرجا ) ، قال : لا يجد مسلكا إلا صعدا .
13869 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني : ( ضيقا حرجا ) ، قال : ليس للخير فيه منفذ .
[ ص: 106 ]
13870 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
سويد بن نصر قال : أخبرنا
ابن المبارك ، عن
معمر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ، مثله .
13871 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قوله : (
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) ، بلا إله إلا الله ، لا يجد لها في صدره مساغا .
13872 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
سويد بن نصر قال : أخبرنا
ابن المبارك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قراءة في قوله : (
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا ) ، بلا إله إلا الله ، حتى لا تستطيع أن تدخله .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأه بعضهم : ( ضيقا حرجا ) بفتح الحاء والراء من ( حرجا ) ، وهي قراءة عامة المكيين والعراقيين ، بمعنى جمع " حرجة " ، على ما وصفت .
وقرأ ذلك عامة قرأة
المدينة : " ضيقا حرجا " ، بفتح الحاء وكسر الراء .
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك في معناه .
فقال بعضهم : هو بمعنى : " الحرج " . وقالوا : " الحرج " بفتح الحاء والراء ، و " الحرج " بفتح الحاء وكسر الراء ، بمعنى واحد ، وهما لغتان مشهورتان ، مثل : " الدنف " و " الدنف " ، و " الوحد " و " الوحد " ، و " الفرد " و " الفرد " .
وقال آخرون منهم : بل هو بمعنى الإثم ، من قولهم : " فلان آثم حرج " ، وذكر عن العرب سماعا منها : " حرج عليك ظلمي " ، بمعنى : ضيق وإثم .
[ ص: 107 ]
قال
أبو جعفر : والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد ، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب ، لاتفاق معنيهما . وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في " الوحد " و " الفرد " بفتح الحاء من " الوحد " والراء من " الفرد " ، وكسرهما ، بمعنى واحد .
وأما " الضيق " ، فإن عامة القرأة على فتح ضاده وتشديد يائه ، خلا بعض المكيين فإنه قرأه : " ضيقا " ، بفتح الضاد وتسكين الياء ، وتخفيفه .
وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان :
أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد ، كما قيل : " هين لين " ، بمعنى : هين لين .
والآخر : أن يكون سكنه بنية المصدر ، من قولهم : " ضاق هذا الأمر يضيق ضيقا " ، كما قال
رؤبة :
قد علمنا عند كل مأزق ضيق بوجه الأمر أو مضيق
ومنه قول الله : (
ولا تك في ضيق مما يمكرون ) ، [ سورة النحل : 127 ] . وقال رؤبة أيضا وشفها اللوح بمأزول ضيق
[ ص: 108 ] بمعنى : ضيق . وحكي عن
الكسائي أنه كان يقول : " الضيق " ، بالكسر : في المعاش والموضع ، وفي الأمر " الضيق " .
قال
أبو جعفر : وفي هذه الآية أبين البيان لمن وفق لفهمهما ، عن أن السبب الذي به يوصل إلى الإيمان والطاعة ، غير السبب الذي به يوصل إلى الكفر والمعصية ، وأن كلا السببين من عند الله . وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدر من أراد هدايته للإسلام ، ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيقا عن الإسلام حرجا كأنما يصعد في السماء . ومعلوم أن شرح الصدر للإيمان خلاف تضييقه له ، وأنه لو كان يوصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه ، لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق ، ولكان من ضيق صدره عن الإيمان ، قد شرح صدره له ، ومن شرح صدره له ، فقد ضيق عنه ، إذ كان موصولا بكل واحد منهما أعني من التضييق والشرح إلى ما يوصل به إلى الآخر . ولو كان ذلك كذلك ، وجب أن يكون الله قد كان شرح صدر
أبي جهل للإيمان به ، وضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه . وهذا القول من أعظم الكفر بالله . وفي فساد ذلك أن يكون كذلك ، الدليل الواضح على أن السبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله ، وأطاعه المطيعون ، غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون ، وأن كلا السببين من عند الله وبيده ؛ لأنه أخبر جل ثناؤه أنه هو
[ ص: 109 ] الذي يشرح صدر هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته ، ويضيق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلاله .