القول في
تأويل قوله ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( 16 ) )
قال
أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : قال إبليس لربه : (
فبما أغويتني ) ، يقول : فبما أضللتني ، كما : -
14361 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
عبد الله بن صالح قال ، حدثني
معاوية ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس قوله : (
فبما أغويتني ) ، يقول : أضللتني .
14362 - حدثني
يونس قال ، أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في
[ ص: 333 ] قوله : (
فبما أغويتني ) ، قال : فبما أضللتني .
وكان بعضهم يتأول قوله : (
فبما أغويتني ) ، بما أهلكتني ، من قولهم : " غوي الفصيل يغوى غوى " ، وذلك إذا فقد اللبن فمات ، من قول الشاعر :
معطفة الأثناء ليس فصيلها برازئها درا ولا ميت غوى
وأصل الإغواء في كلام العرب : تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسنه عنده ، غارا له .
وقد حكي عن بعض قبائل طيئ ، أنها تقول : " أصبح فلان غاويا " ، أي : أصبح مريضا .
وكان بعضهم يتأول ذلك أنه بمعنى القسم ، كأن معناه عنده : فبإغوائك إياي ، لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، كما يقال : " بالله لأفعلن كذا " .
وكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى المجازاة ، كأن معناه عنده : فلأنك أغويتني أو : فبأنك أغويتني
لأقعدن لهم صراطك المستقيم .
[ ص: 334 ]
قال
أبو جعفر : وفي هذا بيان واضح على فساد ما يقول
القدرية ، من أن كل من كفر أو آمن فبتفويض الله أسباب ذلك إليه ، وأن السبب الذي به يصل المؤمن إلى الإيمان ، هو السبب الذي به يصل الكافر إلى الكفر . وذلك أن ذلك لو كان كما قالوا : لكان الخبيث قد قال بقوله : (
فبما أغويتني ) ، " فبما أصلحتني " ، إذ كان سبب " الإغواء " هو سبب " الإصلاح " ، وكان في إخباره عن الإغواء إخبار عن الإصلاح ، ولكن لما كان سبباهما مختلفين ، وكان السبب الذي به غوى وهلك من عند الله . أضاف ذلك إليه فقال : (
فبما أغويتني ) .
وكذلك قال محمد بن كعب القرظي ، فيما : -
14363 - حدثني
موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15945زيد بن الحباب قال ، حدثنا
أبو مودود ، سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي يقول : قاتل الله
القدرية ، لإبليس أعلم بالله منهم !
وأما قوله : (
لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ، فإنه يقول : لأجلسن لبني آدم "
صراطك المستقيم " ، يعني : طريقك القويم ، وذلك دين الله الحق ، وهو الإسلام وشرائعه . وإنما معنى الكلام : لأصدن بني آدم عن عبادتك وطاعتك ، ولأغوينهم كما أغويتني ، ولأضلنهم كما أضللتني .
وذلك كما روي عن
سبرة بن أبي الفاكه : -
14364 - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810528إن الشيطان قعد لابن آدم [ ص: 335 ] بأطرقة ، فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم . ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك ، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول؟ فعصاه وهاجر . ثم قعد له بطريق الجهاد ، وهو جهد النفس والمال ، فقال : أتقاتل فتقتل ، فتنكح المرأة ، ويقسم المال؟ قال : فعصاه فجاهد .
وروي عن
عون بن عبد الله في ذلك ما : -
14365 - حدثنا
ابن وكيع قال ، حدثنا
حبويه أبو يزيد ، عن
عبد الله بن بكير ، عن
محمد بن سوقة ، عن
عون بن عبد الله : (
لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ، قال : طريق
مكة .
[ ص: 336 ]
والذي قاله
عون ، وإن كان من صراط الله المستقيم ، فليس هو الصراط كله . وإنما أخبر عدو الله أنه يقعد لهم صراط الله المستقيم ، ولم يخصص منه شيئا دون شيء . فالذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أشبه بظاهر التنزيل ، وأولى بالتأويل ، لأن الخبيث لا يألو عباد الله الصد عن كل ما كان لهم قربة إلى الله .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل في معنى " المستقيم " ، في هذا الموضع .
ذكر من قال ذلك :
14366 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
صراطك المستقيم ) ، قال : الحق .
14367 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
14368 - حدثني
الحارث قال ، حدثنا
عبد العزيز قال ، حدثنا
أبو سعد المدني قال ، سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهدا يقول : (
لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ، قال : سبيل الحق ، فلأضلنهم إلا قليلا .
قال
أبو جعفر : واختلف أهل العربية في ذلك .
فقال بعض نحويي
البصرة : معناه : لأقعدن لهم على صراطك المستقيم ، كما
[ ص: 337 ] يقال : " توجه
مكة " ، أي إلى
مكة ، وكما قال الشاعر :
كأني إذ أسعى لأظفر طائرا مع النجم من جو السماء يصوب
بمعنى : لأظفر بطائر ، فألقى " الباء " ، وكما قال : (
أعجلتم أمر ربكم ) ، [ سورة الأعراف : 150 ] ، بمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم .
وقال بعض نحويي
الكوفة ، المعنى ، والله أعلم : لأقعدن لهم على طريقهم ، وفي طريقهم . قال : وإلقاء الصفة من هذا جائز ، كما تقول : " قعدت لك وجه الطريق " و " على وجه الطريق " ، لأن الطريق صفة في المعنى ، فاحتمل ما يحتمله " اليوم " و " الليلة " و " العام " ، إذا قيل : " آتيك غدا " ، و " آتيك في غد " .
قال
أبو جعفر : وهذا القول هو أولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، لأن " القعود " مقتض مكانا يقعد فيه ، فكما يقال : " قعدت في مكانك " ، يقال : " قعدت على صراطك " ، و " في صراطك " ، كما قال الشاعر :
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه ، كما عسل الطريق الثعلب
[ ص: 338 ] فلا تكاد العرب تقول ذلك في أسماء البلدان ، لا يكادون يقولون : " جلست
مكة " ، و " قمت
بغداد " .