القول في
تأويل قوله ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما جاء
موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه "وكلمه ربه" ، وناجاه " قال"
موسى لربه (
رب أرني أنظر ) ، قال الله له مجيبا : " (
لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ) .
وكان سبب مسألة
موسى ربه النظر إليه ، ما : -
15073 - حدثني به
موسى بن هارون قال ، حدثنا
عمرو قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : إن
موسى عليه السلام لما كلمه ربه ، أحب أن ينظر إليه قال : "
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " ، فحف حول الجبل [ بملائكة ] ، وحف حول الملائكة بنار ، وحف حول النار بملائكة ، وحف حول الملائكة بنار ، ثم تجلى ربه للجبل .
15074 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
إسحاق قال ، حدثنا
عبد الله بن [ ص: 91 ] أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، في قوله : (
وقربناه نجيا ) ، [ مريم : 52 ] ، قال : حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قربه الرب حتى سمع صريف القلم ، فقال عند ذلك من الشوق إليه : (
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ) .
15075 - حدثنا
القاسم قال ، حدثني
الحسين قال ، حدثني
حجاج ، عن
أبي بكر الهذلي قال : لما تخلف
موسى عليه السلام بعد الثلاثين ، حتى سمع كلام الله ، اشتاق إلى النظر إليه فقال : (
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ) ، وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا ، من نظر إلي مات! قال : إلهي سمعت منطقك ، واشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك ! قال : فانظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني .
15076 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
عبد الله قال ، حدثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : (
أرني أنظر إليك ) ، قال : أعطني .
15077 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : استخلف
موسى هارون على
بني إسرائيل وقال : إني متعجل إلى ربي ، فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين . فخرج
موسى إلى ربه متعجلا للقيه شوقا إليه ، وأقام
هارون في
بني إسرائيل ، ومعه
السامري يسير بهم على أثر
موسى ليلحقهم به . فلما كلم الله
موسى ، طمع في رؤيته ، فسأل ربه أن ينظر إليه ، فقال الله
لموسى : إنك لن تراني ، (
ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) ، الآية . قال
ابن إسحاق : فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر
موسى لما طلب النظر إلى ربه ، وأهل الكتاب يزعمون وأهل التوراة : أن قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة ، ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله ، والله أعلم .
قال
ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول بأحاديث
أهل الكتاب ، إنهم
[ ص: 92 ] يجدون في تفسير ما عندهم من خبر
موسى حين طلب ذلك إلى ربه ، أنه كان من كلامه إياه حين طمع في رؤيته ، وطلب ذلك منه ، ورد عليه ربه منه ما رد : أن
موسى كان تطهر وطهر ثيابه ، وصام للقاء ربه . فلما أتى
طور سيناء ، ودنا الله له في الغمام فكلمه ، سبحه وحمده وكبره وقدسه ، مع تضرع وبكاء حزين ، ثم أخذ في مدحته ، فقال : رب ما أعظمك وأعظم شأنك كله! من عظمتك أنه لم يكن شيء من قبلك ، فأنت الواحد القهار ، كأن عرشك تحت عظمتك نارا توقد لك ، وجعلت سرادقا [ من نور ] من دونه سرادق من نور ، فما أعظمك رب وأعظم ملكك! جعلت بينك وبين ملائكتك مسيرة خمسمائة عام . فما أعظمك رب وأعظم ملكك في سلطانك! فإذا أردت شيئا تقضيه في جنودك الذين في السماء أو الذين في الأرض ، وجنودك الذين في البحر ، بعثت الريح من عندك لا يراها شيء من خلقك ، إلا أنت إن شئت ، فدخلت في جوف من شئت من أنبيائك ، فبلغوا لما أردت من عبادك . وليس أحد من ملائكتك يستطيع شيئا من عظمتك ولا من عرشك ولا يسمع صوتك ، فقد أنعمت علي وأعظمت علي في الفضل ، وأحسنت إلي كل الإحسان! عظمتني في أمم الأرض ، وعظمتني عند ملائكتك ، وأسمعتني صوتك ، وبذلت لي كلامك ، وآتيتني حكمتك ، فإن أعد نعماك لا أحصيها ، وإن أرد شكرك لا أستطيعه . دعوتك ، رب ، على
[ ص: 93 ] فرعون بالآيات العظام ، والعقوبة الشديدة ، فضربت بعصاي التي في يدي البحر فانفلق لي ولمن معي! ودعوتك حين أجزت البحر ، فأغرقت عدوك وعدوي . وسألتك الماء لي ولأمتي ، فضربت بعصاي التي في يدي الحجر ، فمنه أرويتني وأمتي . وسألتك لأمتي طعاما لم يأكله أحد كان قبلهم ، فأمرتني أن أدعوك من قبل المشرق ومن قبل المغرب ، فناديتك من شرقي أمتي فأعطيتهم المن من مشرق لنفسي ، وآتيتهم السلوى من غربيهم من قبل البحر ، واشتكيت الحر فناديتك ، فظللت عليهم بالغمام . فما أطيق نعماك علي أن أعدها ولا أحصيها ، وإن أردت شكرها لا أستطيعه . فجئتك اليوم راغبا طالبا سائلا متضرعا ، لتعطيني ما منعت غيري . أطلب إليك ، وأسألك يا ذا العظمة والعزة والسلطان ، أن تريني أنظر إليك ، فإني قد أحببت أن أرى وجهك الذي لم يره شيء من خلقك! قال له رب العزة : ألا ترى يا
ابن عمران ما تقول؟ تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق! لا يراني أحد فيحيا ، [ ليس في السماوات معمري ، فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي ، وليس في الأرض معمري ، فإنها قد ضعفت أن تسع بجندي ] . فلست في مكان واحد فأتجلى لعين تنظر إلي . قال
موسى : يا رب ، أن أراك وأموت ، أحب إلي من أن لا أراك وأحيا . قال له رب العزة : يا
ابن عمران تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق ، لا يراني أحد فيحيا! قال : رب تمم علي نعماك ، وتمم علي فضلك ، وتمم علي إحسانك ، بهذا الذي سألتك ، ليس لي أن أراك
[ ص: 94 ] فأقبض ، ولكن أحب أن أراك فيطمئن قلبي . قال له : يا
ابن عمران ، لن يراني أحد فيحيا! قال :
موسى رب تمم علي نعماك وتمم علي فضلك ، وتمم علي إحسانك بهذا الذي سألتك ، فأموت على أثر ذلك ، أحب إلي من الحياة! فقال الرحمن المترحم على خلقه : قد طلبت يا
موسى ، [ وحي ] لأعطينك سؤلك إن استطعت أن تنظر إلي ، فاذهب فاتخذ لوحين ، ثم انظر إلى الحجر الأكبر في رأس الجبل ، فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلا مجلسك يا
ابن عمران . ثم انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير ، ففعل
موسى كما أمره ربه ، نحت لوحين ثم صعد بهما إلى الجبل فجلس على الحجر ، فلما استوى عليه ، أمر الله جنوده الذين في السماء الدنيا فقال : ضعي أكتافك حول الجبل . فسمعت ما قال الرب ، ففعلت أمره . ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي
موسى أربعة فراسخ من كل ناحية ، ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمروا
بموسى ، فاعترضوا عليه ، فمروا به طيران النغر ، تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، فقال
موسى بن عمران عليه السلام : رب ، إني كنت عن هذا غنيا ، ما ترى عيناي شيئا ، قد ذهب بصرهما من شعاع النور المتصفف على ملائكة ربي! ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية : أن اهبطوا على
موسى فاعترضوا عليه! فهبطوا أمثال الأسد لهم لجب بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف
ابن عمران مما رأى ومما سمع ، فاقشعرت كل شعرة في رأسه وجلده ، ثم قال : ندمت على مسألتي إياك ، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟
[ ص: 95 ] فقال له كبير الملائكة ورأسهم يا
موسى ، اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة : أن اهبطوا على
موسى ، فاعترضوا عليه! فأقبلوا أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس ، كلجب الجيش العظيم ، كلهب النار . ففزع
موسى ، وأسيت نفسه وأساء ظنه ، وأيس من الحياة ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : مكانك يا
ابن عمران ، حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة : أن اهبطوا فاعترضوا على
موسى بن عمران ! فأقبلوا وهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ، ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض ، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس ، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم . فاصطكت ركبتاه ، وأرعد قلبه ، واشتد بكاؤه ، فقال كبير الملائكة ورأسهم : يا
ابن عمران اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة : أن اهبطوا فاعترضوا على
موسى ! فهبطوا عليه سبعة ألوان ، فلم يستطع
موسى أن يتبعهم طرفه ، ولم ير مثلهم ، ولم يسمع مثل أصواتهم ، وامتلأ جوفه خوفا ، واشتد حزنه وكثر بكاؤه ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : يا
ابن عمران ، مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ! ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة : أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني
موسى بن عمران ، واعترضوا
[ ص: 96 ] عليه! فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نارا أشد ضوءا من الشمس ، ولباسهم كلهب النار ، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم ، يقولون بشدة أصواتهم : "سبوح قدوس ، رب العزة أبدا لا يموت" في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم
موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا ، وهو يبكي ويقول : "رب اذكرني ، ولا تنس عبدك ، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت أحرقت ، وإن مكثت مت" ! فقال له كبير الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت يا
ابن عمران أن يمتلئ جوفك ، وينخلع قلبك ، ويشتد بكاؤك ، فاصبر للذي جلست لتنظر إليه يا
ابن عمران ! وكان جبل
موسى جبلا عظيما ، فأمر الله أن يحمل عرشه ، ثم قال : مروا بي على عبدي ليراني ، فقليل من كثير ما رأى ! فانفرج الجبل من عظمة الرب ، وغشي ضوء عرش الرحمن جبل
موسى ، ورفعت ملائكة السماوات أصواتها جميعا ، فارتج الجبل فاندك ، وكل شجرة كانت فيه ، وخر العبد الضعيف
موسى بن عمران صعقا على وجهه ، ليس معه روحه ، فأرسل الله الحياة برحمته ، فتغشاه برحمته وقلب الحجر الذي كان عليه وجعله كالمعدة كهيئة القبة ، لئلا يحترق
موسى ، فأقامه الروح ، مثل الأم أقامت جنينها حين يصرع . قال : فقام
موسى يسبح الله ويقول : آمنت أنك ربي ، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك رب ، وأعظم ملائكتك ، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، تأمر الجنود الذين عندك فيطيعونك وتأمر السماء وما فيها فتطيعك ، لا تستنكف من ذلك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك ، الحمد لله الذي لا شريك له ، ما أعظمك وأجلك رب العالمين!
[ ص: 97 ]