القول في
تأويل قوله ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم "خلف" يعني : خلف سوء . يقول : حدث بعدهم وخلافهم ، وتبدل منهم ، بدل سوء .
يقال منه : "هو خلف صدق" ، "وخلف سوء" ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح "اللام" ، وفي الذم بتسكينها ، وقد تحرك في الذم ، وتسكن في المدح ، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول
حسان :
لنا القدم الأولى إليك ، وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
[ ص: 210 ]
وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد ، مأخوذ من قولهم : "خلف اللبن" ، إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد ، فكأن الرجل الفاسد مشبه به . وقد يجوز أن يكون منه قولهم "خلف فم الصائم" ، إذا تغيرت ريحه . وأما في تسكين "اللام" في الذم ، فقول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقيل : إن الخلف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خلفوا من قبلهم ، هم
النصارى .
ذكر من قال ذلك :
15313 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : "
فخلف من بعدهم خلف " ، قال :
النصارى .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى
[ ص: 211 ] ذكره ، إنما وصف أنه خلف القوم الذين قص قصصهم في الآيات التي مضت ، خلف سوء رديء ، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه ، وقصتهم بقصص
اليهود أشبه منها بقصص
النصارى . وبعد ، فإن ما قبل ذلك خبر عن
بني إسرائيل ، وما بعده كذلك ، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه ، إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم ، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به .
فتأويل الكلام إذا : فتبدل من بعدهم بدل سوء ، ورثوا كتاب الله فعلموه ، وضيعوا العمل به ، فخالفوا حكمه ، يرشون في حكم الله ، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل "الأدنى" ، يعني ب"الأدنى" : الأقرب من الآجل الأبعد . ويقولون إذا فعلوا ذلك : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا ، تمنيا على الله الأباطيل ، كما قال جل ثناؤه فيهم : (
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) ، [ سورة البقرة : 79 ] "
وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، يقول : وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك ، أخذوه واستحلوه ولم يرتدعوا عنه . يخبر جل ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم .
[ ص: 212 ]
ذكر من قال ذلك :
15314 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12235أحمد بن المقدام قال ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14919فضيل بن عياض ، عن
منصور ، عن
سعيد بن جبير في قوله : "
يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، قال : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
15315 - حدثنا
ابن بشار قال ، حدثنا
عبد الرحمن قال ، حدثنا
سفيان ، عن
منصور ، عن
سعيد بن جبير : "
وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، قال : من الذنوب .
153116 - حدثنا
ابن وكيع قال ، حدثنا
جرير ، عن
منصور ، عن
سعيد بن جبير : "
يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " ، قال : يعملون بالذنوب "
وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، : قال : ذنب آخر ، يعملون به .
15317 - حدثنا
ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن
سفيان ، عن
منصور ، عن
سعيد بن جبير : "
يأخذون عرض هذا الأدنى " ، قال : الذنوب "
وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، قال : الذنوب .
15318 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
يأخذون عرض هذا الأدنى ) قال : ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه ، ويبتغون المغفرة ، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه .
15319 - حدثنا
القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، بنحوه إلا أنه قال : يتمنون المغفرة .
15320 - حدثنا
الحارث قال ، حدثنا
عبد العزيز قال ، حدثنا
أبو سعد ، عن
مجاهد : "
يأخذون عرض هذا الأدنى " ، قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : "
سيغفر لنا " ، وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .
[ ص: 213 ]
15321 - حدثنا
بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
فخلف من بعدهم خلف " ، إي والله ، لخلف سوء ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : (
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) ، [ سورة مريم : 59 ] ، قال : "
يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " ، تمنوا على الله أماني ، وغرة يغترون بها . "
وإن يأتهم عرض مثله " ، لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك ، كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه ، لا يبالون حلالا كان أو حراما .
15322 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة : "
يأخذون عرض هذا الأدنى " ، قال : يأخذونه إن كان حلالا وإن كان حراما "
وإن يأتهم عرض مثله " ، قال : إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه .
15323 - حدثني
محمد بن الحسين قال ، حدثنا
أحمد بن المفضل قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قوله : "
فخلف من بعدهم خلف " إلى قوله : "
ودرسوا ما فيه " ، قال : كانت
بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استقضي ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول : سيغفر لي ! فيطعن عليه البقية الآخرون من
بني إسرائيل فيما صنع . فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي . يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه . وأما "عرض الأدنى" ، فعرض الدنيا من المال .
15324 - حدثني
محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي
[ ص: 214 ] قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : "
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " ، يقول : يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام ، ويقولون : "
سيغفر لنا " .
15325 - وحدثني
يونس قال ، أخبرنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد في قوله : "
يأخذون عرض هذا الأدنى " ، قال : الكتاب الذي كتبوه "
ويقولون سيغفر لنا " ، لا نشرك بالله شيئا "
وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، يأتهم المحق برشوة فيخرجوا له كتاب الله ، ثم يحكموا له بالرشوة . وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له "المثناة" ، وهو الكتاب الذي كتبوه ، فحكموا له بما في "المثناة" ، بالرشوة ، فهو فيها محق ، وهو في التوراة ظالم ، فقال الله : (
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ) .
15326 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
جرير ، عن
منصور ، عن
سعيد بن جبير قوله : "
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى " ، قال : يعملون بالذنوب "
ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، قال : الذنوب .