القول في
تأويل قوله ( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه (
ولكنه أخلد إلى الأرض ) ، يقول : سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض ، ومال إليها ، وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة "
واتبع هواه " ، ورفض طاعة الله وخالف أمره .
وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبره في هذه الآية ، على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره ، ما : -
15420 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
المعتمر ، عن أبيه :
[ ص: 262 ] أنه سئل عن الآية : (
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) ، فحدث عن
سيار أنه كان رجلا يقال له
بلعام ، وكان قد أوتي النبوة ، وكان مجاب الدعوة قال : وإن
موسى أقبل في
بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها
بلعام أو قال
الشأم قال : فرعب الناس منه رعبا شديدا . قال : فأتوا
بلعام ، فقالوا : ادع الله على هذا الرجل وجيشه ! قال : حتى أوامر ربي أو حتى أؤامر قال : فوامر في الدعاء عليهم ، فقيل له : لا تدع عليهم ، فإنهم عبادي ، وفيهم نبيهم! قال : فقال لقومه : إني قد وامرت ربي في الدعاء عليهم ، وإني قد نهيت . قال : فأهدوا إليه هدية فقبلها . ثم راجعوه ، فقالوا : ادع عليهم! فقال : حتى أوامر! فوامر ، فلم يحر إليه شيء . قال : فقال : قد وامرت فلم يحر إلي شيء! فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم ، لنهاك كما نهاك المرة الأولى . قال : فأخذ يدعو عليهم ، فإذا دعا عليهم جرى على لسانه الدعاء على قومه; وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه ، دعا أن يفتح
لموسى وجيشه أو نحوا من ذلك إن شاء الله . فقال : فقالوا : ما نراك تدعو إلا علينا! قال :
[ ص: 263 ] ما يجري على لساني إلا هكذا ، ولو دعوت عليه ما استجيب لي ، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم : إن الله يبغض الزنا ، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا ، ورجوت أن يهلكهم الله ، فأخرجوا النساء فليستقبلنهم ، وإنهم قوم مسافرون ، فعسى أن يزنوا فيهلكوا . قال : ففعلوا ، وأخرجوا النساء يستقبلنهم . قال : وكان للملك ابنة ، فذكر من عظمها ما الله أعلم به! قال : فقال أبوها ، أو
بلعام : لا تمكني نفسك إلا من
موسى ! قال : ووقعوا في الزنا . قال : وأتاها رأس سبط من أسباط
بني إسرائيل ، فأرادها على نفسه قال : فقالت : ما أنا بممكنة نفسي إلا من
موسى ! قال : فقال : إن من منزلتي كذا وكذا ، وإن من حالي كذا وكذا! قال : فأرسلت إلى أبيها تستأمره ، قال : فقال لها : فأمكنيه . قال : ويأتيهما رجل من بني
هارون ومعه الرمح فيطعنهما قال : وأيده الله بقوة فانتظمهما جميعا ، ورفعهما على رمحه . قال : فرآهما الناس أو كما حدث . قال : وسلط الله عليهم الطاعون . قال : فمات منهم سبعون ألفا . قال : فقال
أبو المعتمر : فحدثني
سيار أن
بلعاما ركب حمارة له ، حتى إذا أتى الفلول أو قال : طريقا بين الفلول جعل يضربها ولا تقدم . قال : وقامت عليه ، فقالت : علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك! قال : فإذا الشيطان بين يديه . قال : فنزل فسجد له ، قال الله : (
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ) إلى قوله : (
لعلهم يتفكرون )
[ ص: 264 ] قال : فحدثني بهذا
سيار ، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره .
15421 - حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : حدثنا
المعتمر ، عن أبيه قال : وبلغني حديث رجل من
أهل الكتاب يحدث : أن
موسى سأل الله أن يطبعه ، وأن يجعله من أهل النار . قال : ففعل الله . قال : أنبئت أن
موسى قتله بعد .
15422 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
محمد بن إسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15956سالم أبي النضر ، أنه حدث : أن
موسى لما نزل في أرض
بني كنعان من أرض
الشأم [ وكان
بلعم ببالعة ، قرية من قرى
البلقاء . فلما نزل
موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل ] أتى قوم
بلعم إلى
بلعم ، فقالوا له : يا
بلعم ، إن هذا
موسى بن عمران في
بني إسرائيل ، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها
بني إسرائيل ويسكنها ، وإنا قومك ، وليس لنا منزل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله عليهم! فقال : ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون ، كيف أذهب أدعو عليهم ، وأنا أعلم من الله ما أعلم!! قالوا : ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرققونه ، ويتضرعون إليه ، حتى فتنوه فافتتن . فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على
[ ص: 265 ] عسكر
بني إسرائيل . وهو
جبل حسبان . فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها ، فضربها ، حتى إذا أذلقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به . ففعل بها مثل ذلك ، فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به . فضربها حتى إذا أذلقها ، أذن الله لها ، فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا
بلعم ! أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم! فلم ينزع عنها يضربها ، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك . قال : فانطلقت حتى أشرفت به على رأس
جبل حسبان على عسكر
موسى وبني إسرائيل ، جعل يدعو عليهم ، فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى
بني إسرائيل . قال : فقال له قومه : أتدري يا
بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم ، وتدعو علينا ! قال : فهذا ما لا أملك ، هذا شيء قد غلب الله عليه . قال : واندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء وأعطوهن السلع ،
[ ص: 266 ] ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنى منهم واحد كفيتموهم ! ففعلوا; فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من
الكنعانيين اسمها "
كسبى ابنة صور " ، رأس أمته ، برجل من عظماء
بني إسرائيل ، وهو
زمرى بن شلوم ، رأس سبط
شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فقام إليها ، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف بها على
موسى عليه السلام ، فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك؟ فقال : أجل هي حرام عليك لا تقربها ! قال : فوالله لا نطيعك في هذا ، فدخل بها قبته فوقع عليها . وأرسل الله الطاعون في
بني إسرائيل ، وكان
فنحاص بن العيزار بن هارون ، صاحب أمر
موسى ، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش ، وكان غائبا حين صنع
زمرى بن شلوم ما صنع . فجاء والطاعون يحوس في
بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته . وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليه القبة وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحييه ، وكان
بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ! ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من
بني إسرائيل في الطاعون ، فيما بين أن أصاب
زمرى المرأة إلى أن قتله
فنحاص ، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا ، والمقلل يقول : عشرون ألفا في ساعة من النهار . فمن هنالك تعطي
[ ص: 267 ] بنو إسرائيل ولد
فنحاص بن العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحي ، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى لحييه والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان
بكر العيزار .
ففي بلعم بن باعور ، أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) ، يعني
بلعم ، (
فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ) ، . . إلى قوله : (
لعلهم يتفكرون )
15423 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : انطلق رجل من
بني إسرائيل يقال له
بلعم ، فأتى الجبارين فقال : لا ترهبوا من
بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم فيهلكون . فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس . وخرج
بلعم مع الجبارين على أتانه وهو يريد أن يلعن
بني إسرائيل ، فكلما أراد أن يدعو على
بني إسرائيل ، دعا على الجبارين ، فقال الجبارون : إنك إنما تدعو علينا ! فيقول : إنما أردت
بني إسرائيل . فلما بلغ باب المدينة ، أخذ ملك بذنب الأتان ، فأمسكها ، فجعل يحركها فلا تتحرك ، فلما أكثر ضربها ، تكلمت فقالت : أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار؟ ويلي منك ! ولو أني أطقت الخروج لخرجت ، ولكن هذا الملك يحبسني . وفي بلعم يقول الله : (
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ) . . الآية .
15424 - حدثني
الحارث قال : حدثنا
عبد العزيز قال : حدثني رجل
[ ص: 268 ] سمع
عكرمة ، يقول : قالت امرأة منهم : أروني
موسى ، فأنا أفتنه ! قال : فتطيبت ، فمرت على رجل يشبه
موسى ، فواقعها ، فأتي
ابن هارون فأخبر ، فأخذ سيفا ، فطعن به في إحليله حتى أخرجه وأخرجه من قبلها ثم رفعهما حتى رآهما الناس ، فعلم أنه ليس
موسى ، ففضل
آل هارون في القربان على
آل موسى بالكتد والعضد والفخذ . قال : فهو الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، يعني
بلعم . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (
ولو شئنا لرفعناه بها ) .
فقال بعضهم : معناه : لرفعناه بعلمه بها .
ذكر من قال ذلك .
15425 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قال
ابن عباس : (
ولو شئنا لرفعناه بها ) ، لرفعه الله تعالى بعلمه .
وقال آخرون : معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا .
ذكر من قال ذلك :
15426 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قول الله : (
ولو شئنا لرفعناه بها ) ، : لدفعناه عنه .
15427 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد : (
ولو شئنا لرفعناه بها ) ، : لدفعناه عنه .
[ ص: 269 ] قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عم الخبر بقوله : (
ولو شئنا لرفعناه بها ) ، أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها . والرفع يعم معاني كثيرة ، منها الرفع في المنزلة عنده ، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها . ومنها الرفع في الذكر الجميل والثناء الرفيع . وجائز أن يكون الله عنى كل ذلك : أنه لو شاء لرفعه ، فأعطاه كل ذلك ، بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه . وإذ كان ذلك جائزا ، فالصواب من القول فيه أن لا يخص منه شيء ، إذ كان لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل . وأما قوله : ( بها ) ، فإن
ابن زيد قال في ذلك كالذي قلنا .
15428 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
ولو شئنا لرفعناه بها ) ، بتلك الآيات . وأما قوله : (
ولكنه أخلد إلى الأرض ) ، فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا فيه .
ذكر من قال ذلك :
15429 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
إسرائيل ، عن
أبي الهيثم ، عن
سعيد بن جبير : (
ولكنه أخلد إلى الأرض ) ، يعني : ركن إلى الأرض .
15430 - . . . . قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17294يحيى بن آدم ، عن
شريك ، عن
سالم ، عن
سعيد بن جبير : (
ولكنه أخلد إلى الأرض ) قال : نزع إلى الأرض .
15431 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "أخلد" : سكن .
15432 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثنا
أبو تميلة ، عن
أبي حمزة ، عن
جابر ، عن
مجاهد وعكرمة ، عن
ابن عباس قال : كان في
[ ص: 270 ] بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابا ، فأخلد إلى شهوات الأرض ولذتها وأموالها ، لم ينتفع بما جاء به الكتاب .
15433 - حدثنا
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ) ، أما (
أخلد إلى الأرض ) : فاتبع الدنيا ، وركن إليها . قال
أبو جعفر : وأصل "الإخلاد" في كلام العرب : الإبطاء والإقامة ، يقال منه : "أخلد فلان بالمكان" ، إذا أقام به وأخلد نفسه إلى المكان" إذا أتاه من مكان آخر ، ومنه قول
زهير :
لمن الديار غشيتها بالفدفد كالوحي في حجر المسيل المخلد
يعني المقيم ، ومنه قول
مالك بن نويرة :
بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
[ ص: 271 ]
وكان بعض
البصريين يقول معنى قوله : "أخلد" : لزم وتقاعس وأبطأ ، و"المخلد" أيضا : هو الذي يبطئ شيبه من الرجال وهو من الدواب ، الذي تبقى ثناياه حتى تخرج رباعيتاه .
وأما قوله : (
واتبع هواه ) ، فإن
ابن زيد قال في تأويله ، ما :
15434 - حدثني به
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
واتبع هواه ) قال : كان هواه مع القوم .