القول في
تأويل قوله ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ( 8 ) )
قال
أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم ، أيها المؤمنون ، عهد وذمة ، وهم (
إن يظهروا عليكم ) ، يغلبوكم (
لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
واكتفى ب"كيف" دليلا على معنى الكلام ، لتقدم ما يراد من المعنى بها قبلها . وكذلك تفعل العرب ، إذا أعادت الحرف بعد مضي معناه ، استجازوا حذف الفعل ، كما قال الشاعر :
وخبرتماني أنما الموت في القرى فكيف وهذي هضبة وكثيب
فحذف الفعل بعد "كيف"؛ لتقدم ما يراد بعدها قبلها ، ومعنى الكلام : فكيف يكون الموت في القرى ، وهذي هضبة وكثيب ، لا ينجو فيهما منه أحد .
[ ص: 146 ]
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (
لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
فقال بعضهم ، معناه : لا يرقبوا الله فيكم ولا عهدا .
ذكر من قال ذلك :
16499 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
لا يرقبون في مؤمن إلا ) ، [ سورة التوبة : 10 ] ، قال : الله .
16500 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
سليمان ، عن
أبي مجلز في قوله : (
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) ، قال : مثل قوله : "
جبرائيل " ، "
ميكائيل " ، "
إسرافيل " ، كأنه يقول : يضيف "جبر" و"ميكا" و"إسراف" ، إلى "إيل" ، يقول : عبد الله (
لا يرقبون في مؤمن إلا ) ، كأنه يقول : لا يرقبون الله .
16501 - حدثني
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثني
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : ( إلا ولا ذمة ) ، لا يرقبون الله ولا غيره .
وقال آخرون : "الإل" ، القرابة .
ذكر من قال ذلك :
16502 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله بن صالح قال : حدثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : (
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) ، يقول : قرابة ولا عهدا . وقوله : (
وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، قال : "الإل" ، يعني : القرابة ، و"الذمة" : العهد .
16503 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي
[ ص: 147 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : (
لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، "الإل" : القرابة ، و"الذمة" : العهد ، يعني أهل العهد من المشركين ، يقول : ذمتهم .
16504 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا
أبو معاوية وعبدة ، عن
جويبر ، عن
الضحاك : "الإل" : القرابة .
16505 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
محمد بن عبد الله ، عن
سلمة بن كهيل ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس : (
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) ، قال : "الإل" ، القرابة ، و"الذمة" ، العهد .
16506 - حدثت عن
الحسين بن الفرج قال : سمعت
أبا معاذ قال : أخبرنا
عبيد بن سليمان ، قال سمعت ،
الضحاك يقول في قوله : (
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) ، "الإل" : القرابة ، و"الذمة" : الميثاق .
16507 - حدثني
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
كيف وإن يظهروا عليكم ) ، المشركون (
لا يرقبوا فيكم ) ، عهدا ولا قرابة ولا ميثاقا .
وقال آخرون : معناه : الحلف .
ذكر من قال ذلك :
16508 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، قال : "الإل" : الحلف ، و"الذمة" : العهد .
وقال آخرون : "الإل" ، هو العهد ، ولكنه كرر لما اختلف اللفظان ، وإن كان معناهما واحدا .
[ ص: 148 ]
ذكر من قال ذلك :
16509 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : ( إلا ) ، قال : عهدا .
16510 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في
قوله : ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، قال : لا يرقبوا فيكم عهدا ولا ذمة . قال : إحداهما من صاحبتها كهيئة "غفور" ، "رحيم" ، قال : فالكلمة واحدة ، وهي تفترق . قال : والعهد هو "الذمة" .
16511 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن
خصيف ، عن
مجاهد ( ولا ذمة ) ، قال : العهد .
16512 - حدثني
الحارث قال : حدثنا
عبد العزيز قال : حدثنا
قيس ، عن
خصيف ، عن
مجاهد : ( ولا ذمة ) ، قال : "الذمة" : العهد .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، وحصرهم والقعود لهم على كل مرصد : أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم "إلا" .
و"الإل" : اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهي العهد ، والعقد ، والحلف ، والقرابة ، وهو أيضا بمعنى "الله" ، فإذ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها - جل ثناؤه - معانيها الثلاثة ، فيقال : لا يرقبون في مؤمن الله ، ولا قرابة ، ولا عهدا ، ولا ميثاقا .
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى "القرابة" قول
ابن مقبل :
أفسد الناس خلوف خلفوا
قطعوا الإل وأعراق الرحم
[ ص: 149 ]
بمعنى : قطعوا القرابة ، وقول حسان بن ثابت :
لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام
وأما معناه إذا كان بمعنى "العهد" ، فقول القائل :
وجدناهم كاذبا إلهم وذو الإل والعهد لا يكذب
وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من
البصريين : أن "الإل" ، و"العهد" ، و"الميثاق" ، و"اليمين" واحد وأن "الذمة" في هذا الموضع ، التذمم ممن لا عهد له ، والجمع : "ذمم" .
وكان
ابن إسحاق يقول : عنى بهذه الآية أهل العهد العام .
16513 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق : (
كيف وإن يظهروا عليكم ) ، أي : المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد
[ ص: 150 ] العام (
لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
فأما قوله : (
يرضونكم بأفواههم ) ، فإنه يقول : يعطونكم بألسنتهم من القول ، خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء (
وتأبى قلوبهم ) ، أي : تأبى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم ، بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم . يحذر - جل ثناؤه - أمرهم المؤمنين ، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله ، وأن لا يقصروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه (
وأكثرهم فاسقون ) ، يقول : وأكثرهم مخالفون عهدكم ، ناقضون له ، كافرون بربهم ، خارجون عن طاعته .