القول في
تأويل قوله : ( مالك يوم الدين ) .
قال
أبو جعفر : القراء مختلفون في تلاوة ( ملك يوم الدين ) . فبعضهم يتلوه " ملك يوم الدين " ، وبعضهم يتلوه ( ملك يوم الدين ) وبعضهم يتلوه ( مالك يوم الدين ) بنصب الكاف . وقد استقصينا حكاية الرواية عمن روي عنه في ذلك قراءة في " كتاب القراءات " ، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه ، والعلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه ، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع ، إذ كان الذي قصدنا له ، في كتابنا هذا ، البيان عن وجوه تأويل آي القرآن ، دون وجوه قراءتها .
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب ، أن الملك من "الملك "
[ ص: 149 ] مشتق ، وأن المالك من "الملك " مأخوذ . فتأويل قراءة من قرأ ذلك : ( ملك يوم الدين ) ، أن لله الملك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه ، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكا جبابرة ينازعونه الملك ، ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية . فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأذلة ، وأن له - من دونهم ، ودون غيرهم - الملك والكبرياء ، والعزة والبهاء ، كما قال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله : (
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) سورة غافر : 16 . فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا ، الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار ، ومن دنياهم في المعاد إلى خسار .
وأما تأويل قراءة من قرأ : (
مالك يوم الدين ) ، فما : -
166 - حدثنا به
أبو كريب ، قال : حدثنا
عثمان بن سعيد ، عن
بشر بن عمارة ، قال : حدثنا
أبو روق ، عن
الضحاك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس : (
مالك يوم الدين ) ، يقول : لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا . ثم قال : (
لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) سورة النبأ : 38 وقال : (
وخشعت الأصوات للرحمن ) سورة طه : 108 . وقال : (
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) سورة الأنبياء : 28 .
قال
أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية ، وأصح القراءتين في التلاوة عندي ،
[ ص: 150 ] التأويل الأول ، وهي قراءة من قرأ "ملك " بمعنى "الملك " . لأن في الإقرار له بالانفراد بالملك ، إيجابا لانفراده بالملك ، وفضيلة زيادة الملك على المالك ، إذ كان معلوما أن لا ملك إلا وهو مالك ، وقد يكون المالك لا ملكا .
وبعد ، فإن الله جل ذكره ، قد أخبر عباده في الآية التي قبل قوله ( ملك يوم الدين ) أنه مالك جميع العالمين وسيدهم ، ومصلحهم ، والناظر لهم ، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة ، بقوله : (
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ) .
وإذ كان جل ذكره قد أنبأهم عن ملكه
[ ص: 151 ] إياهم كذلك بقوله : ( رب العالمين ) ، فأولى الصفات من صفاته جل ذكره أن يتبع ذلك ما لم يحوه قوله (
رب العالمين الرحمن الرحيم ) ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصلة والمجاورة ، إذ كانت حكمته الحكمة التي لا تشبهها حكمة ، وكان في إعادة وصفه جل ذكره بأنه (
مالك يوم الدين ) ، إعادة ما قد مضى من وصفه به في قوله ( رب العالمين ) ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين . وكان في إعادة ذلك تكرار ألفاظ مختلفة بمعان متفقة ، لا تفيد سامع ما كرر منه فائدة به إليها حاجة . والذي لم يحوه من صفاته جل ذكره ما قبل قوله : (
مالك يوم الدين ) ، المعنى الذي في قوله : ( ملك يوم الدين ) ، وهو وصفه بأنه الملك .
فبين إذا أن أولى القراءتين بالصواب ، وأحق التأويلين بالكتاب ، قراءة من قرأه ( ملك يوم الدين ) ، بمعنى إخلاص الملك له يوم الدين ، دون قراءة من قرأ (
مالك يوم الدين ) الذي بمعنى أنه يملك الحكم بينهم وفصل القضاء ، متفردا به دون سائر خلقه .
فإن ظن ظان أن قوله ( رب العالمين ) نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة ، يوجب وصل ذلك بالنبأ عن نفسه أنه : من ملكهم في الآخرة على نحو ملكه إياهم في الدنيا بقوله (
مالك يوم الدين ) - فقد أغفل وظن خطأ .
وذلك أنه لو جاز لظان أن يظن أن قوله ( رب العالمين ) محصور معناه على الخبر عن ربوبية عالم الدنيا دون عالم الآخرة ، مع عدم الدلالة على أن معنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل ، أو في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقول ، أو بحجة موجودة في المعقول - لجاز لآخر أن يظن أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله ( رب العالمين ) ، دون سائر ما يحدث بعده في الأزمنة الحادثة من العالمين . إذ كان صحيحا بما قد قدمنا من البيان ، أن عالم كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده .
فإن غبي - عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا - ذو غباء ، فإن في قول الله جل ثناؤه : (
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين ) سورة الجاثية : 16 دلالة واضحة على أن عالم كل زمان ، غير عالم الزمان الذي كان قبله ، وعالم الزمان الذي بعده ، إذ كان الله جل ثناؤه قد فضل أمة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية ، وأخبرهم بذلك في قوله : (
كنتم خير أمة أخرجت للناس ) الآية سورة آل عمران : 110 . فمعلوم بذلك أن بني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا - مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم - أفضل العالمين ، بل كان أفضل العالمين في ذلك العصر وبعده إلى قيام الساعة ، المؤمنون به المتبعون منهاجه ، دون من سواهم من الأمم المكذبة الضالة عن منهاجه .
وإذ كان بينا فساد تأويل متأول لو تأول قوله ( رب العالمين ) أنه معني به
[ ص: 152 ] أن الله رب عالمي زمن نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ، دون عالمي سائر الأزمنة غيره - كان واضحا فساد قول من زعم أن تأويله : رب عالم الدنيا دون عالم الآخرة ، وأن "مالك يوم الدين " استحق الوصل به ليعلم أنه في الآخرة من ملكهم وربوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا .
ويسأل زاعم ذلك ، الفرق بينه وبين متحكم مثله - في تأويل قوله ( رب العالمين ) ، تحكم فقال : إنه إنما عنى بذلك أنه رب عالمي زمان
محمد صلى الله عليه وسلم ، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله ، والحادثة بعده ، كالذي زعم قائل هذا القول : أنه عنى به عالمي الدنيا دون عالمي الآخرة - من أصل أو دلالة . فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .
وأما الزاعم أن تأويل قوله (
مالك يوم الدين ) أنه الذي يملك إقامة يوم الدين ، فإن الذي ألزمنا قائل هذا القول الذي قبله - له لازم . إذ كانت إقامة القيامة ، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك ، في الدار التي أعد الله لهم فيها ما أعد . وهم العالمون الذين قد أخبر جل ذكره عنهم أنه ربهم في قوله ( رب العالمين ) .
وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ (
مالك يوم الدين ) ، فإنه أراد : يا مالك يوم الدين ، فنصبه بنية النداء والدعاء ، كما قال جل ثناؤه : (
يوسف أعرض عن هذا ) سورة يوسف : 29 بتأويل : يا
يوسف أعرض عن هذا ، وكما قال الشاعر من
بني أسد ، وهو شعر - فيما يقال - جاهلي :
إن كنت أزننتني بها كذبا جزء ، فلاقيت مثلها عجلا
[ ص: 153 ]
يريد : يا جزء ، وكما قال الآخر :
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها بني شاب قرناها تصر وتحلب
يريد : يا بني شاب قرناها . وإنما أورطه في قراءة ذلك - بنصب الكاف من "مالك " ، على المعنى الذي وصفت - حيرته في توجيه قوله : (
إياك نعبد وإياك نستعين ) وجهته ، مع جر (
مالك يوم الدين ) وخفضه . فظن أنه لا يصح معنى ذلك بعد جره (
مالك يوم الدين ) ، فنصب : "مالك يوم الدين " ليكون (
إياك نعبد ) له خطابا . كأنه أراد : يا مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين . ولو كان علم تأويل أول السورة ، وأن "الحمد لله رب العالمين " أمر من الله عبده بقيل ذلك - كما ذكرنا قبل من الخبر عن
ابن عباس : أن
جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره : قل يا
محمد ، (
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) ، وقل أيضا يا محمد : (
إياك نعبد وإياك نستعين ) - وكان عقل عن العرب أن من شأنها إذا حكت أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب ، وتخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب ، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب ، كقولهم للرجل : قد قلت لأخيك : لو قمت لقمت ، وقد قلت لأخيك : لو قام لقمت - لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته من جر "مالك يوم الدين " .
[ ص: 154 ]
ومن نظير "مالك يوم الدين " مجرورا ، ثم عوده إلى الخطاب ب "إياك نعبد " ، لما ذكرنا قبل - البيت السائر من شعر
أبي كبير الهذلي :
يا لهف نفسي كان جدة خالد وبياض وجهك للتراب الأعفر
فرجع إلى الخطاب بقوله : " وبياض وجهك " ، بعد ما قد مضى الخبر عن خالد على معنى الخبر عن الغائب .
ومنه قول
لبيد بن ربيعة :
باتت تشكى إلي النفس مجهشة وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فرجع إلى مخاطبة نفسه ، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب .
ومنه قول الله ، وهو أصدق قيل وأثبت حجة : (
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) سورة يونس : 22 ، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب ، ولم يقل : وجرين بكم . والشواهد من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .
فقراءة : " مالك يوم الدين " محظورة غير جائزة ، لإجماع جميع الحجة من القراء وعلماء الأمة على رفض القراءة بها .