القول في تأويل قوله (
ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 70 ) )
قال
أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يسرون الكفر بالله ، وينهون عن الإيمان به وبرسوله (
نبأ الذين من قبلهم ) يقول : خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم ، حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا ، ماذا حل بهم من عقوبتنا ؟
ثم بين - جل ثناؤه - من أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نبؤهم ، فقال : ( قوم نوح ) ولذلك خفض " القوم " ؛ لأنه ترجم بهن عن " الذين " " والذين " في موضع خفض .
[ ص: 345 ] ومعنى الكلام : ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر
قوم نوح وصنيعي بهم إذ كذبوا رسولي
نوحا ، وخالفوا أمري ؟ ألم أغرقهم بالطوفان ؟
( وعاد ) يقول : وخبر
عاد ، إذ عصوا رسولي
هودا ، ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية ؟ وخبر
ثمود ، إذ عصوا رسولي
صالحا ، ألم أهلكهم بالرجفة فأتركهم بأفنيتهم خمودا ؟ وخبر قوم
إبراهيم إذ عصوه وردوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحق ، ألم أسلبهم النعمة ، وأهلك ملكهم
نمرود ؟ . وخبر أصحاب
مدين بن إبراهيم ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة إذ كذبوا رسولي
شعيبا ؟ . وخبر المنقلبة بهم أرضهم ، فصار أعلاها أسفلها ، إذ عصوا رسولي
لوطا ، وكذبوا ما جاءهم به من عندي من الحق ؟ يقول - تعالى ذكره - : أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزئون بالله وبآياته ورسوله ، أن يسلك بهم في الانتقام منهم - وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا - سبيل أسلافهم من الأمم ، ويحل بهم بتكذيبهم رسولي
محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما حل بهم في تكذيبهم رسلنا ، إذ أتتهم بالبينات .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
16936 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر عن
قتادة : ( والمؤتفكات ) قال : قوم لوط ، انقلبت بهم أرضهم ، فجعل عاليها سافلها .
16937 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد عن
قتادة قوله : ( والمؤتفكات ) قال : هم قوم
لوط .
[ ص: 346 ] فإن قال قائل : فإن كان عني ب " المؤتفكات "
قوم لوط ، فكيف قيل : " المؤتفكات " فجمعت ولم توحد ؟
قيل : إنها كانت قريات ثلاثا ، فجمعت لذلك ، ولذلك جمعت بالتاء ، على قول الله : (
والمؤتفكة أهوى ) [ سورة النجم : 53 ] .
فإن قال : وكيف قيل : أتتهم رسلهم بالبينات ، وإنما كان المرسل إليهم واحدا ؟
قيل : معنى ذلك : أتى كل قرية من المؤتفكات رسول يدعوهم إلى الله ، فتكون رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى الله عن رسالته رسلا إليهم ، كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي : " الفديكات " " وأبو فديك " واحد ، ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم ، دعوا بذلك ، ونسبوا إلى رئيسهم . فكذلك قوله : (
أتتهم رسلهم بالبينات ) .
وقد يحتمل أن يقال معنى ذلك : أتت قوم
نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم الله في هذه الآية رسلهم من الله بالبينات .
وقوله : ( فما كان الله ليظلمهم ) يقول - جل ثناؤه - : فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها ، واستحقاقها من الله عظيم العقاب ، لا ظلما من الله لهم ، ولا وضعا منه - جل ثناؤه - عقوبة في غير من هو لها أهل ؛ لأن الله حكيم لا خلل في تدبيره ، ولا خطأ في تقديره ، ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله ، حتى أسخطوا عليهم ربهم ، فحقت عليهم كلمة العذاب فعذبوا .