[ ص: 416 ] القول في تأويل قوله : (
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 90 ) )
قال
أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : ( وجاء ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (
المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ) في التخلف ( وقعد ) عن المجيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجهاد معه (
الذين كذبوا الله ورسوله ) وقالوا الكذب ، واعتذروا بالباطل منهم . يقول - تعالى ذكره - : سيصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه
محمد - صلى الله عليه وسلم - منهم عذاب أليم .
فإن قال قائل : (
وجاء المعذرون ) وقد علمت أن " المعذر " في كلام العرب إنما هو : الذي يعذر في الأمر فلا يبالغ فيه ولا يحكمه ؟ وليست هذه صفة هؤلاء ، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدوهم ، وحرصوا على ذلك ، فلم يجدوا إليه السبيل ، فهم بأن يوصفوا بأنهم : " قد أعذروا " أولى وأحق منهم بأن يوصفوا بأنهم " عذروا " . وإذا وصفوا بذلك ، فالصواب في ذلك من القراءة ، ما قرأه
ابن عباس وذلك ما : -
17073 - حدثنا
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي حماد قال : حدثنا
بشر بن عمارة عن
أبي روق عن
الضحاك قال : كان
ابن عباس يقرأ : " وجاء المعذرون " مخففة ، ويقول : هم أهل العذر .
مع موافقة
مجاهد إياه وغيره عليه ؟
[ ص: 417 ] قيل : إن معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه ، وإن معناه : وجاء المعتذرون من الأعراب ولكن " التاء " لما جاورت " الذال " أدغمت فيها ، فصيرتا ذالا مشددة ؛ لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى كما قيل : " يذكرون " في " يتذكرون " و " يذكر " في " يتذكر " وخرجت العين من " المعذرين " إلى الفتح ؛ لأن حركة التاء من " المعتذرين " - وهي الفتحة - نقلت إليها ، فحركت بما كانت به محركة . والعرب قد توجه في معنى " الاعتذار " إلى " الإعذار " فيقول : " قد اعتذر فلان في كذا " يعني : أعذر ، ومن ذلك قول
لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فقال : فقد اعتذر بمعنى : فقد أعذر .
على أن أهل التأويل قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معذرين " .
فقال بعضهم : كانوا كاذبين في اعتذارهم ، فلم يعذرهم الله .
ذكر من قال ذلك :
17074 - حدثني
أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد قال : حدثني أبي ، عن
الحسين قال : كان
قتادة يقرأ : "
وجاء المعذرون من الأعراب " قال : اعتذروا بالكذب .
17075 - حدثني
الحارث قال : حدثنا
عبد العزيز قال : حدثنا
يحيى بن زكريا ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد : "
وجاء المعذرون من الأعراب " ، قال : نفر من
بني غفار ، جاءوا فاعتذروا ، فلم يعذرهم الله .
فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار
[ ص: 418 ] بالباطل لا بالحق ، فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار ، إلا أن يوصفوا بأنهم أعذروا في الاعتذار بالباطل . فأما بالحق على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء فغير جائز أن يوصفوا به .
وقد كان بعضهم يقول : إنما جاءوا معذرين غير جادين ، يعرضون ما لا يريدون فعله . فمن وجهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك غير أني لا أعلم أحدا من أهل العلم بتأويل القرآن وجه تأويله إلى ذلك ، فأستحب القول به .
وبعد ، فإن الذي عليه من القراءة قرأة الأمصار التشديد في " الذال " أعني من قوله : ( المعذرون ) ففي ذلك دليل على صحة تأويل من تأوله بمعنى الاعتذار ؛ لأن القوم الذين وصفوا بذلك لم يكلفوا أمرا عذروا فيه ، وإنما كانوا فرقتين : إما مجتهد طائع ، وإما منافق فاسق ، لأمر الله مخالف . فليس في الفريقين موصوف بالتعذير في الشخوص مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو معذر مبالغ ، أو معتذر .
فإذا كان ذلك كذلك ، وكانت الحجة من القرأة مجمعة على تشديد " الذال " من " المعذرين " علم أن معناه ما وصفناه من التأويل .
وقد ذكر عن
مجاهد في ذلك موافقة
ابن عباس .
17076 - حدثني
المثنى قال : أخبرنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الله بن الزبير ، عن
ابن عيينة ، عن
حميد قال : قرأ
مجاهد : " وجاء المعذرون " مخففة . وقال : هم أهل العذر .
17077 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة عن
ابن إسحاق قال : كان المعذرون - فيما بلغني - نفرا من
بني غفار ، منهم :
خفاف بن أيماء بن [ ص: 419 ] رحضة ثم كانت القصة لأهل العذر ، حتى انتهى إلى قوله : (
ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) الآية ] .