القول في
تأويل قوله تعالى ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها )
قال
أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (
وإذ قتلتم نفسا ) ، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا . و " النفس " التي قتلوها ، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله : (
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) .
وقوله : (
فادارأتم فيها ) ، يعني فاختلفتم وتنازعتم . وإنما هو " فتدارأتم فيها " على مثال " تفاعلتم " ، من الدرء . و " الدرء " : العوج ، ومنه قول
أبي النجم العجلي :
خشية ضغام إذا هم جسر يأكل ذا الدرء ويقصي من حقر
يعني : ذا العوج والعسر . ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=15876رؤبة بن العجاج :
أدركتها قدام كل مدره بالدفع عني درء كل عنجه
[ ص: 223 ] ومنه الخبر الذي : -
1291 - حدثنا به
أبو كريب قال ، حدثنا
مصعب بن المقدام ، عن
إسرائيل ، عن
إبراهيم بن المهاجر ، عن
مجاهد ، عن
السائب قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3501572جاءني عثمان وزهير ابنا أمية ، فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أعلم به منكما ، ألم تكن شريكي في الجاهلية ؟ قلت : نعم ، بأبي أنت وأمي ، فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري " .
[ ص: 224 ] يعني بقوله : " لا تداري ، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشاره .
وإنما أصل ( فادارأتم ) ، فتدارأتم ، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين ، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال ، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر :
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل
يريد إذا ما تتابع القبل ، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى . فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت ، فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها ، وذلك إذا كان قبله شيء ، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء ، ومنه قول الله جل ثناؤه : (
حتى إذا اداركوا فيها جميعا ) [ الأعراف : 38 ] ، إنما هو " تداركوا " ، ولكن التاء منها أدغمت في الدال ، فصارت دالا مشددة ، وجعلت فيها ألف - إذ وصلت بكلام - قبلها ليسلم الإدغام . وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله ، وابتدئ به ، قيل : تداركوا وتثاقلوا ، فأظهروا الإدغام . وقد قيل يقال : " اداركوا ، وادارءوا " .
وقد قيل إن معنى قوله : ( فادارأتم فيها ) ، فتدافعتم فيها . من قول القائل : " درأت هذا الأمر عني " ، ومن قول الله : (
ويدرأ عنها العذاب ) [ النور : 8 ] ، بمعنى
[ ص: 225 ] يدفع عنها العذاب . وهذا قول قريب المعنى من القول الأول . لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل ، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله ، كما قد بينا قبل فيما مضى من كتابنا هذا . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( فادارأتم فيها ) قال أهل التأويل .
1292 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثني
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : ( فادارأتم فيها ) ، قال : اختلفتم فيها .
1293 - حدثنا
المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله .
1294 - حدثنا
القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : (
وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ) قال بعضهم : أنتم قتلتموه . وقال الآخرون : أنتم قتلتموه .
1295 - حدثني
يونس قال ، أخبرنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد في قوله : ( فادارأتم فيها ) ، قال : اختلفتم ، وهو التنازع ، تنازعوا فيه . قال : قال هؤلاء : أنتم قتلتموه . وقال هؤلاء : لا .
وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما : -
1296 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قال : صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل ، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين ، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم ، فانتفوا - أو انتفلوا - منه . شك
أبو عاصم .
1297 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل ، عن
[ ص: 226 ] ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال : فادعوا دمه عندهم فانتفوا - ولم يشك - منه .
1298 - حدثنا
بشر قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : قتيل كان في بني إسرائيل فقذف كل سبط منهم [ سبطا به ] ، حتى تفاقم بينهم الشر ، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم . فأوحى الله إلى
موسى : أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها . فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله ، من أجل ميراث كان بينهم .
1299 - حدثني
ابن سعد قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس في شأن البقرة . وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد
موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم ، وكان الشيخ لا ولد له ، وكان بنو أخيه ورثته . فقالوا : ليت عمنا قد مات فورثنا ماله ! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم ، أتاهم الشيطان ، فقال : هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم ، فترثوا ماله ، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته ؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين ، كانوا في إحداهما ، فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين ، قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين ، فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك ، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم ، عمدوا إليه فقتلوه ، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها . فلما أصبح أهل المدينة ، جاء بنو أخي الشيخ ، فقالوا : عمنا قتل على باب مدينتكم ، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا . قال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا . وأنهم عمدوا إلى
موسى ، فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ : عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم . وقال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلناه ، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا . وأن
جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى
موسى ،
[ ص: 227 ] فقال : قل لهم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها .
1300 - حدثنا
القاسم قال ، حدثنا
حسين قال ، حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد -
وحجاج عن
أبي معشر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض ، قالوا : إن سبطا من بني إسرائيل ، لما رأوا كثرة شرور الناس ، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس ، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه ، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف ، فإذا لم ير شيئا فتح المدينة ، فكانوا مع الناس حتى يمسوا . وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ، ولم يكن له وارث غير ابن أخيه ، فطال عليه حياته ، فقتله ليرثه ، ثم حمله فوضعه على باب المدينة ، ثم كمن في مكان هو وأصحابه . قال : فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة ، فنظر فلم ير شيئا . ففتح الباب ، فلما رأى القتيل رد الباب : فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه : هيهات ! قتلتموه ثم تردون الباب ؟ وكان
موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل ، كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم أخذهم . فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال ، حتى لبس الفريقان السلاح ، ثم كف بعضهم عن بعض . فأتوا
موسى فذكروا له شأنهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب . وقال أهل المدينة : يا رسول الله ، قد عرفت اعتزالنا الشرور ، وبنينا مدينة - كما رأيت - نعتزل شرور الناس ، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا . فأوحى الله تعالى ذكره إليه : أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم
موسى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة .
1301 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
آدم قال ، حدثنا
أبو جعفر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17240هشام بن حسان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين ، عن
عبيدة قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير ، فقتله ابن أخ له ، فجره فألقاه على باب ناس آخرين .
[ ص: 228 ] ثم أصبحوا ، فادعاه عليهم ، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء ، فأرادوا أن يقتتلوا ، فقال ، ذوو النهى منهم : أتقتتلون وفيكم نبي الله ؟ فأمسكوا حتى أتوا
موسى ، فقصوا عليه القصة ، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ، فقالوا : أتتخذنا هزوا ؟ قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .
1302 - حدثني
يونس قال ، أخبرنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد : قتيل من بني إسرائيل ، طرح في سبط من الأسباط ، فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا : أنتم والله قتلتم صاحبنا . فقالوا : لا والله . فأتوا إلى
موسى فقالوا : هذا قتيلنا بين أظهرهم ، وهم والله قتلوه . فقالوا : لا والله يا نبي الله ، طرح علينا . فقال لهم
موسى صلى الله عليه وسلم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة .
قال
أبو جعفر : فكان
اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره ، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو " الدرء " الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم : (
فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ) .