القول في تأويل قوله تعالى : (
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ( 98 ) )
قال
أبو جعفر : يقول ، تعالى ذكره : فهلا كانت قرية آمنت ؟ وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبي .
ومعنى الكلام : فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ، ونزول سخط الله بها ، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه ، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت ، كما
لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيه ، واستحقاقه سخط الله
[ ص: 206 ] بمعصيته إلا قوم
يونس فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم .
فاستثنى الله
قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم ، وأخرجهم منهم ، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله : (
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) بمعنى : فما كانت قرية آمنت ، بمعنى الجحود ، فكيف نصب " قوما " وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدا كان ما بعده مرفوعا ، وأن الصحيح من كلام العرب : " ما قام أحد إلا أخوك " و " ما خرج أحد إلا أبوك " ؟
قيل : إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله ، وذلك أن " الأخ " من جنس " أحد " وكذلك " الأب " ، ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله ، كان الفصيح من كلامهم النصب ، وذلك لو قلت : " ما بقي في الدار أحد إلا الوتد " و " ما عندنا أحد إلا كلبا أو حمارا " لأن " الكلب " و " الوتد " ، و " الحمار " ، من غير جنس " أحد " ، ومنه قول
النابغة الذبياني :
عيت جوابا وما بالربع من أحد
ثم قال :
إلا أواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فنصب " الأواري " إذ كان مستثنى من غير جنسه . فكذلك نصب ( قوم
يونس ) ، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم ، ومن غير جنسهم
[ ص: 207 ] وشكلهم ، وإن كانوا من بني آدم . وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع ، ولو كان ( قوم
يونس ) بعض " الأمة " الذين استثنوا منهم ، كان الكلام رفعا ، ولكنهم كما وصفت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
17897 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني عن
ابن عباس قوله : (
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) ، يقول : لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله ، إلا قرية
يونس .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : قال
مجاهد : فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم
يونس إيمانهم إلا قوم
يونس .
17898 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد عن
قتادة قوله : (
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) يقول : لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب ، فتركت ، إلا قوم
يونس ، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، [ وفرقوا ] بين كل بهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة . فلما عرف الله الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم . قال : وذكر لنا أن قوم
يونس كانوا
بنينوى أرض
الموصل .
[ ص: 208 ]
17899 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
محمد بن ثور عن
معمر عن
قتادة : (
إلا قوم يونس ) ، قال : بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تل ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، يدعون الله أربعين ليلة ، حتى تاب عليهم .
17900 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12194عبد الحميد الحماني عن
إسماعيل بن عبد الملك عن
سعيد بن جبير قال : غشى قوم
يونس العذاب ، كما يغشي الثوب القبر .
17901 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج عن
صالح المري عن
قتادة عن
ابن عباس : إن العذاب كان هبط على قوم
يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، فلما دعوا كشف الله عنهم .
17902 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد وإسحاق قال : حدثنا
عبد الله عن
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد : (
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا ) ، قال : كما نفع قوم
يونس . زاد
أبو حذيفة في حديثه ، قال : لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها ، إلا قوم
يونس متعناهم .
17903 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس قال : حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره ، في إمارة
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فحدث عن قوم
يونس حين أنذر قومه فكذبوه ، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم ، وفارقهم . فلما رأوا ذلك غشيهم العذاب ، [ لكنهم ] خرجوا من مساكنهم ، وصعدوا في مكان رفيع ، وأنهم
[ ص: 209 ] جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين : أن يكشف عنهم العذاب ، وأن يرجع إليهم رسولهم . قال : ففي ذلك أنزل : (
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها ، إلا قوم
يونس خاصة . فلما رأى ذلك
يونس ، [ لكنه ] ذهب عاتبا على ربه ، وانطلق مغاضبا وظن أن لن يقدر عليه ، حتى ركب في سفينة ، فأصاب أهلها عاصف الريح فذكر قصة
يونس وخبره .
17904 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل عن
ابن أبي نجيح قال : " لما رأوا العذاب ينزل ، فرقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام ، ثم قاموا جميعا فدعوا الله ، وأخلصوا إيمانهم ، فرأوا العذاب يكشف عنهم . قال
يونس حين كشف عنهم العذاب : أرجع إليهم وقد كذبتهم! وكان
يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثة ، فعند ذلك خرج مغضبا وساء ظنه .
17905 - حدثني
الحارث قال : حدثنا
عبد العزيز قال : حدثنا
سفيان عن
إسماعيل بن عبد الملك عن
سعيد بن جبير قال : لما أرسل
يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه . قال : فدعاهم فأبوا ، فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبحهم ، فقالوا : إنا لم نجرب عليه كذبا ، فانظروا ، فإن بات فيكم فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم . فلما كان في جوف الليل أخذ علاثة فتزود منها شيئا ، ثم خرج ، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب ،
[ ص: 210 ] كما يتغشى الإنسان الثوب في القبر ، ففرقوا بين الإنسان وولده ، وبين البهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله فقالوا : آمنا بما جاء به
يونس وصدقنا! فكشف الله عنهم العذاب ، فخرج
يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا ، قال : جربوا علي كذبا! فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر .
17906 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج عن
إسرائيل عن أبي
إسحاق عن
عمرو بن ميمون قال ، حدثنا
ابن مسعود في بيت المال ، قال : إن
يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب ، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا بين كل والدة وولدها ، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه . فكف الله عنهم العذاب ، وغدا
يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا ، وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل ، فانطلق مغاضبا .
17907 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=11953يحيى بن واضح قال : حدثنا
صالح المري عن
nindex.php?page=showalam&ids=12107أبي عمران الجوني عن
أبي الجلد جيلان قال : لما غشى قوم
يونس العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له : إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال : قولوا : " يا حي حين لا حي ، ويا حي محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت " فكشف عنهم العذاب ، ومتعوا إلى حين .
17908 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
محمد بن ثور عن
معمر قال : بلغني في حرف
ابن مسعود : " فلولا " ، يقول ( فهلا ) .
وقوله : (
لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) ، يقول : لما صدقوا رسولهم ، وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلهم العذاب وغشيهم أمر الله
[ ص: 211 ] ونزل بهم البلاء ، كشفنا عنهم عذاب الهوان والذل في حياتهم الدنيا (
ومتعناهم إلى حين ) ، يقول : وأخرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة ، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ، ووقت فناء أعمارهم التي قضيت فناءها .