القول في تأويل قوله تعالى : (
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( 28 ) )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه ، وردوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة : (
يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، على علم ومعرفة وبيان من الله لي ما يلزمني له ، ويجب علي من
[ ص: 298 ] إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها (
وآتاني رحمة من عنده ) ، يقول : ورزقني منه التوفيق والنبوة والحكمة ، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني (
فعميت عليكم ) .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة
قراء أهل المدينة وبعض
أهل البصرة والكوفة : ( فعميت ) بفتح العين وتخفيف الميم ، بمعنى : فعميت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها ، فتقروا بها ، وتصدقوا رسولكم عليها .
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : (
فعميت عليكم ) بضم العين وتشديد الميم ، اعتبارا منهم ذلك بقراءة
عبد الله وذلك أنها فيما ذكر في قراءة
عبد الله : ( فعماها عليكم ) .
قال
أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : (
فعميت عليكم ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكروا من العلة لمن قرأ به ، ولقربه من قوله : (
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده ) ، فأضاف " الرحمة " إلى الله ، فكذلك " تعميته على الآخرين " بالإضافة إليه أولى .
وهذه الكلمة مما حولت العرب الفعل عن موضعه . وذلك أن الإنسان هو الذي يعمى عن إبصار الحق ، إذ يعمى عن إبصاره ، والحق لا يوصف بالعمى ، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام . وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظير قولهم : " دخل الخاتم في يدي ، والخف في رجلي " ومعلوم أن الرجل هي
[ ص: 299 ] التي تدخل في الخف ، والإصبع في الخاتم ، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك ، لما كان معلوما المراد فيه .
وقوله : (
أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ، يقول : أنأخذكم بالدخول في الإسلام ، وقد عماه الله عليكم (
وأنتم لها كارهون ) ، يقول : وأنتم لإلزامناكموها " كارهون " ، يقول : لا نفعل ذلك ، ولكن نكل أمركم إلى الله ، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
18106 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال
نوح : (
يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، قال : قد عرفتها ، وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو (
وآتاني رحمة من عنده ) الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوة
18107 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد عن
قتادة قوله : (
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، الآية ، أما والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه
18108 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي قال : حدثنا
سفيان عن
داود عن
أبي العالية قال : في قراءة أبي : ( أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون ) .
18109 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الله بن [ ص: 300 ] الزبير عن
ابن عيينة قال : أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار قال : قرأ
ابن عباس : ( أنلزمكموها من شطر أنفسنا ) ، قال :
عبد الله : " من شطر أنفسنا " ، من تلقاء أنفسنا .
18110 - حدثني
الحارث قال : حدثنا
عبد العزيز قال : حدثنا
ابن عيينة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار عن
ابن عباس ، مثله .
18111 - حدثني
الحارث قال : حدثنا
عبد العزيز قال : حدثنا
سفيان عن
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند عن
أبي العالية عن
أبي بن كعب : ( أنلزمكموها من شطر قلوبنا وأنتم لها كارهون ) .