القول في تأويل
قوله تعالى : ( وامرأته قائمة فضحكت )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( وامرأته ) ،
سارة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ ، وهي ابنة عم إبراهيم ( قائمة ) ، قيل : كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام
إبراهيم عليه السلام . وقيل : كانت قائمة تخدم الرسل ،
وإبراهيم جالس مع الرسل .
وقوله : ( فضحكت ) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( فضحكت ) ، وفي السبب الذي من أجله ضحكت .
فقال بعضهم : ضحكت الضحك المعروف ، تعجبا من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهما ، تكرمة لهم ، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون .
ذكر من قال ذلك :
18314 - حدثني
موسى بن هارون قال ، حدثنا
عمرو بن حماد قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال ،
بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط ، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب ، حتى نزلوا على
إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم
إبراهيم أجلهم ، فراغ إلى أهله ، فجاء بعجل سمين ، فذبحه ثم شواه في الرضف ، فهو "الحنيذ"
[ ص: 390 ] حين شواه . وأتاهم فقعد معهم ، وقامت
سارة تخدمهم . فذلك حين يقول : (
وامرأته قائمة وهو جالس ) في قراءة
ابن مسعود . فلما قربه إليهم قال ألا تأكلون؟ قالوا : يا إبراهيم ، إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن . قال : فإن لهذا ثمنا! قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله ، وتحمدونه على آخره . فنظر
جبريل إلى
ميكائيل فقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه يقول : لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه
سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا !
وقال آخرون : بل ضحكت من أن
قوم لوط في غفلة وقد جاءت رسل الله لهلاكهم .
ذكر من قال ذلك :
18315 - حدثنا
بشر قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قال : لما أوجس
إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه ، فضحكت امرأته وعجبت من أن قوما أتاهم العذاب ، وهم في غفلة . فضحكت من ذلك وعجبت (
فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )
18316 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة أنه قال : ضحكت تعجبا مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب .
وقال آخرون : بل ضحكت ظنا منها بهم أنهم يريدون عمل
قوم لوط .
ذكر من قال ذلك :
18317 - حدثنا
الحارث قال ، حدثنا
عبد العزيز قال ، حدثنا
أبو معشر ، [ ص: 391 ] عن
محمد بن قيس ، في قوله : (
وامرأته قائمة فضحكت ) ، قال : لما جاءت الملائكة ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل
قوم لوط .
وقال آخرون : بل ضحكت لما رأت بزوجها
إبراهيم من الروع .
ذكر من قال ذلك :
18318 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
الكلبي : ( فضحكت ) ، قال : ضحكت حين راعوا
إبراهيم مما رأت من الروع ،
بإبراهيم .
وقال آخرون : بل ضحكت حين بشرت
بإسحاق تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها .
ذكر من قال ذلك :
18319 - حدثني
المثنى قال
إسحاق قال ، حدثنا
إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني
عبد الصمد أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه يقول : لما أتى الملائكة
إبراهيم عليه السلام فرآهم ، راعه هيئتهم وجمالهم ، فسلموا عليه ، وجلسوا إليه ، فقام فأمر بعجل سمين ، فحنذ له ، فقرب إليهم الطعام (
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ) ،
وسارة وراء البيت تسمع ، قالوا : لا تخف إنا نبشرك بغلام حليم مبارك ! وبشر به امرأته
سارة ، فضحكت وعجبت : كيف يكون لي ولد وأنا عجوز ، وهو شيخ كبير! فقالوا : أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم ، فأبشروا به .
وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل : إن هذا من المقدم الذي معناه التأخير ، كأن معنى الكلام عنده : وامرأته قائمة ، فبشرناها
بإسحاق ومن وراء
إسحاق يعقوب ، فضحكت وقالت : يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟
[ ص: 392 ]
وقال آخرون : بل معنى قوله : "فضحكت" في هذا الموضع : فحاضت .
ذكر من قال ذلك :
18320 - حدثني
سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا
بقية بن الوليد ، عن
علي بن هارون ، عن
عمرو بن الأزهر ، عن
ليث ، عن
مجاهد في قوله : ( فضحكت ) ، قال : حاضت ، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة . قال : وكان
إبراهيم ابن مائة سنة .
وقال آخرون : بل ضحكت سرورا بالأمن منهم ، لما قالوا
لإبراهيم : لا تخف ، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضا كما خافهم
إبراهيم . فلما أمنت ضحكت ، فأتبعوها البشارة
بإسحاق .
وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع "ضحكت" ، بمعنى : حاضت ، من ثقة .
وذكر بعض أهل العربية من
البصريين أن بعض
أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول "ضحكت المرأة" ، حاضت . قال : وقد قال :
[ ص: 393 ] "الضحك" ، الحيض ، وقد قال بعضهم : "الضحك" : الثغر ، وذكر بيت
أبي ذؤيب :
فجاء بمزج لم ير الناس مثله هو الضحك إلا أنه عمل النحل
وذكر أن بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض :
وضحك الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا
قال : وذكر له بعض أصحابه أنه سمع
للكميت :
فأضحكت الضباع سيوف سعد بقتلى ما دفن ولا ودينا
وقال : يريد الحيض . قال :
وبلحرث بن كعب يقولون : "ضحكت النخلة" ، إذا أخرجت الطلع أو البسر . وقالوا : "الضحك" الطلع . قال : وسمعنا من يحكي : "أضحكت حوضا" أي ملأته حتى فاض . قال : وكأن المعنى قريب بعضه من بعض كله ، لأنه كأنه شيء يمتلئ فيفيض .
[ ص: 394 ]
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قول من قال : معنى قوله : "فضحكت" فعجبت من غفلة
قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه .
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأنه ذكر عقيب قولهم
لإبراهيم : (
لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم
لإبراهيم : ( لا تخف ) ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر
قوم لوط .