القول في
تأويل قوله تعالى ( يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( 75 ) )
قال
أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : (
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) . فقال بعضهم بما : -
1328 - حدثني به
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : (
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ،
[ ص: 246 ] فالذين يحرفونه والذين يكتمونه ، هم العلماء منهم .
1329 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد بنحوه .
1330 - حدثني
موسى قال ، حدثنا
عمرو بن حماد قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، قال : هي التوراة ، حرفوها .
1331 - حدثنا
يونس قال ، أخبرنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد في قوله : (
يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) ، قال :
التوراة التي أنزلها عليهم ، يحرفونها ، يجعلون الحلال فيها حراما ، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا ، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله ، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب ، فهو فيه محق . وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء ، أمروه بالحق . فقال لهم : (
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) [ البقرة : 44 ] .
وقال آخرون في ذلك بما : -
1332 - حدثت عن
عمار بن الحسن قال ، أخبرنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : (
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون .
1333 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق في قوله : (
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ) الآية ، قال : ليس قوله : ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة . كلهم قد سمعها ، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها .
[ ص: 247 ] 1334 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة ، عن
محمد بن إسحاق قال : بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى : يا
موسى ، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل ، فأسمعنا كلامه حين يكلمك . فطلب ذلك
موسى إلى ربه فقال : نعم ، فمرهم فليتطهروا ، وليطهروا ثيابهم ، ويصوموا . ففعلوا . ثم خرج بهم حتى أتى الطور ، فلما غشيهم الغمام أمرهم
موسى عليه السلام [ أن يسجدوا ] فوقعوا سجودا ، وكلمه ربه فسمعوا كلامه ، يأمرهم وينهاهم ، حتى عقلوا ما سمعوا . ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل . فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا حين قال
موسى لبني إسرائيل : إن الله قد أمركم بكذا وكذا ، قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله : إنما قال كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم . فهم الذين عنى الله لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم .
قال
أبو جعفر : وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية ، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة ، ما قاله
الربيع بن أنس ، والذي حكاه
ابن إسحاق عن بعض أهل العلم : من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل ، سماع
موسى إياه منه ، ثم حرف ذلك وبدل ، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه . وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل ، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان ، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان ، وإيذانا منه تعالى ذكره عباده المؤمنين قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به
محمد من الحق والنور والهدى ، فقال لهم : كيف تطمعون في تصديق هؤلاء
اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم يعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه ، ثم يبدله ويحرفه ويجحده ، فهؤلاء الذين بين
[ ص: 248 ] أظهركم من بقايا نسلهم ، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق ، وهم لا يسمعونه من الله ، وإنما يسمعونه منكم - وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم
محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه ، وهم به عالمون ، فيجحدوه ويكذبوا - من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه ، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف .
ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله : ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة ، لم يكن لذكر قوله : ( يسمعون كلام الله ) معنى مفهوم . لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف ، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له .
فإن ظن ظان [ أنه ] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله : ( يحرفونه ) ، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك . وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون . ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من
اليهود ، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماع كلام الله - ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل ، ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك . فلذلك وصفهم بما وصفهم به ، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره .
ويعني بقوله : ( ثم يحرفونه ) ، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه . وأصله من " انحراف الشيء عن جهته " ، وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله : ( يحرفونه )
[ ص: 249 ] أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره . فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا ، وأنه بخلاف ما حرفوه إليه . فقال : (
يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، يعني : من بعد ما عقلوا تأويله ، ( وهم يعلمون ) ، أي : يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون . وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت ، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله
موسى صلى الله عليه وسلم ، وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر
موسى عليه الصلاة والسلام .