القول في تأويل قوله تعالى : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ( 74 )
إن إبراهيم لحليم أواه منيب ( 75 ) )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما ذهب عن
إبراهيم الخوف الذي أوجسه في نفسه من رسلنا ، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه ، وأمن أن يكون قصد في نفسه وأهله بسوء (
وجاءته البشرى ) ،
بإسحاق ، ظل (
يجادلنا في قوم لوط ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
18331 - حدثنا
بشر قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة ، [ ص: 401 ] قوله : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) يقول : ذهب عنه الخوف ، (
وجاءته البشرى ) ،
بإسحاق .
18332 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ،
بإسحاق ، ويعقوب ولد من صلب
إسحاق ، وأمن مما كان يخاف ، قال : (
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) ، [ سورة إبراهيم : 39 ] .
وقد قيل معنى ذلك : وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون .
ذكر من قال ذلك :
18333 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة : (
وجاءته البشرى ) ، قال : حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى
قوم لوط ، وأنهم ليسوا إياه يريدون .
وقال آخرون : بشر
بإسحاق .
وأما "الروع" : فهو الخوف ، يقال منه : "راعني كذا يروعني روعا" إذا خافه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : "كيف لك بروعة المؤمن"؟ ومنه قول
عنترة :
ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
[ ص: 402 ]
بمعنى : ما أفزعني .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
18334 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "الروع" ، الفرق .
18335 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد
18336 - . . . . قال وحدثنا
إسحاق قال ، حدثنا
عبد الله ، عن
ورقاء ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال : الفرق .
18337 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا
عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا
معمر ، عن
قتادة : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال : الفرق .
18338 - حدثنا
بشر قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال : ذهب عنه الخوف .
وقوله : (
يجادلنا في قوم لوط ) ، يقول : يخاصمنا . كما : -
18339 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : ( يجادلنا ) ، يخاصمنا .
18340 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
وزعم بعض أهل العربية من
أهل البصرة أن معنى قوله : ( يجادلنا ) يكلمنا .
[ ص: 403 ] وقال : لأن
إبراهيم لا يجادل الله ، إنما يسأله ويطلب إليه .
قال
أبو جعفر : وهذا من الكلام جهل ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم
لوط ، فقول القائل : "
إبراهيم لا يجادل" ، موهما بذلك أن قول من قال في تأويل قوله : ( يجادلنا ) ، يخاصمنا ، أن إبراهيم كان يخاصم ربه ، جهل من الكلام ، وإنما كان جداله الرسل على وجه المحاجة لهم . ومعنى ذلك : "وجاءته البشرى يجادل رسلنا" ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف "الرسل" .
وكان جداله إياهم ، كما : -
18341 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
يعقوب القمي قال ، حدثنا
جعفر ، عن
سعيد : (
يجادلنا في قوم لوط ) ، قال : لما جاء جبريل ومن معه قالوا
لإبراهيم : إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين : قال لهم
إبراهيم : أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا؟ قالوا : لا! وكان
إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة
لوط ، فسكت عنهم واطمأنت نفسه .
18342 - حدثنا
أبو كريب قال ، حدثنا
الحماني ، عن
الأعمش ، عن
المنهال ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال ، قال الملك
لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب .
18343 - حدثنا
بشر قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله :
[ ص: 404 ] (
يجادلنا في قوم لوط ) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا : لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال ، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا : لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد .
18344 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة : (
يجادلنا في قوم لوط ) ، قال : بلغنا أنه قال لهم يومئذ : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا : إن كان فيها خمسون لم نعذبهم . قال : أربعون؟ قالوا : وأربعون! قال : ثلاثون؟ قالوا : ثلاثون! حتى بلغ عشرة . قالوا : وإن كان فيهم عشرة! قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير قال
ابن عبد الأعلى ، قال
محمد بن ثور ، قال
معمر : بلغنا أنه كان في قرية
لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، أو ما شاء الله من ذلك .
18345 - حدثني
موسى بن هارون قال ، حدثنا
عمرو بن حماد قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، قال : ما خطبكم أيها المرسلون ؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى
قوم لوط ، فجادلهم في
قوم لوط قال ، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا : لا! فلم يزل يحط حتى بلغ عشرة من المسلمين ، فقالوا : لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين ، ثم قالوا : "يا
إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين " هو
لوط وأهل بيته ، وهو قول الله تعالى ذكره : (
يجادلنا في قوم لوط ) . فقالت الملائكة : (
يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) .
18346 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، يعني :
إبراهيم جادل عن
قوم لوط ليرد عنهم العذاب قال : فيزعم أهل التوراة أن مجادلة
إبراهيم إياهم حين
[ ص: 405 ] جادلهم في
قوم لوط ليرد عنهم العذاب ، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به : أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا : ، لا! قال : أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال : أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال : أفرأيتم إن كان رجلا واحدا مسلما؟ قالوا : لا! قال : فلما لم يذكروا
لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحدا ، (
قال إن فيها لوطا ) ، يدفع به عنهم العذاب (
قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) [ سورة العنكبوت : 32 ] ، (
قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) .
18347 - حدثنا
القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني
حجاج قال ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال
إبراهيم : أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبط إلى خمسة . قال : وكان في قرية
لوط أربعة آلاف ألف .
18348 - حدثنا
محمد بن عوف قال ، حدثنا
أبو المغيرة قال ، حدثنا
صفوان قال ، حدثنا
أبو المثنى ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا (
لما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، إلى آخر الآية قال
إبراهيم : أتعذب عالما من عالمك كثيرا ، فيهم مائة رجل؟ قال : لا وعزتي ، ولا خمسين ! قال : فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة . قال : لا ! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل : (
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) [ سورة الذاريات : 36 ] ، أي
لوطا وابنتيه ، قال : فحل بهم من العذاب ، قال الله عز وجل : (
وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم ) [ سورة الذاريات : 37 ] ، وقال : (
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ) .
[ ص: 406 ]
والعرب لا تكاد تتلقى "لما" إذا وليها فعل ماض إلا بماض ، يقولون : "لما قام قمت" ، ولا يكادون يقولون : "لما قام أقوم" . وقد يجوز فيما كان من الفعل له تطاول مثل "الجدال" "والخصومة" والقتال ، فيقولون في ذلك : "لما لقيته أقاتله" ، بمعنى : جعلت أقاتله .
وقوله : (
إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) ، يقول تعالى ذكره : إن
إبراهيم لبطيء الغضب ، متذلل لربه خاشع له ، منقاد لأمره ( منيب ) ، رجاع إلى طاعته ، كما : -
18349 - حدثني
الحارث قال ، حدثنا
عبد العزيز قال ، حدثنا
إسرائيل ، عن
أبي يحيى ، عن
مجاهد : (
أواه منيب ) ، قال : القانت : الرجاع .
وقد بينا معنى "الأواه" فيما مضى ، باختلاف المختلفين ، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول ، بما أغنى عن إعادته .