القول في تأويل قوله تعالى (
وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ( 76 ) )
قال
أبو جعفر : يعني بقوله : (
وإذا خلا بعضهم إلى بعض ) أي : إذا خلا بعض هؤلاء اليهود - الذين وصف الله صفتهم - إلى بعض منهم ، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم ، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم - " قالوا " يعني : قال بعضهم لبعض - : " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( بما فتح الله عليكم ) . فقال بعضهم بما : -
1339 - حدثنا
أبو كريب قال ، حدثنا
عثمان بن سعيد ، عن
بشر بن [ ص: 251 ] عمارة ، عن
أبي روق ، عن
الضحاك ، عن
ابن عباس : (
وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني : بما أمركم الله به . فيقول الآخرون : إنما نستهزئ بهم ونضحك .
وقال آخرون بما : -
1340 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، أي : بصاحبكم رسول الله ، ولكنه إليكم خاصة ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا ، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان منهم . فأنزل الله : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) ، أي : تقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا ؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به . يقول الله : (
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .
1341 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
آدم قال ، حدثنا
أبو جعفر ، عن
الربيع ،
عن أبي العالية في قوله : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم .
1342 - حدثنا
بشر بن معاذ قال ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع ، عن
سعيد ، عن
قتادة : (
قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي : بما من الله عليكم في كتابكم من نعت
محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم ، (
أفلا تعقلون ) .
[ ص: 252 ] 1343 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا
عبد الرزاق قال ، أخبرنا
معمر ، عن
قتادة : (
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، ليحتجوا به عليكم .
1344 - حدثني
المثنى قال ، حدثني
آدم قال ، حدثنا
أبو جعفر قال ، قال
قتادة : (
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني : بما أنزل الله عليكم من أمر
محمد صلى الله عليه وسلم ونعته .
وقال آخرون في ذلك بما : -
1345 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) قال : قول يهود
بني قريظة ، حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير ، قالوا : من حدثك ؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا
محمدا ، فقال : يا إخوة القردة والخنازير .
1346 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله - إلا أنه قال : هذا ، حين أرسل إليهم
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير " .
1347 - حدثنا
القاسم قال ، حدثني
الحسين قال ، حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال ، أخبرني
القاسم بن أبي بزة ، عن
مجاهد في قوله : (
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ،
[ ص: 253 ] قال :
قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال : " يا إخوان القردة ، ويا إخوان الخنازير ، ويا عبدة الطاغوت . فقالوا : من أخبر هذا محمدا ؟ ما خرج هذا إلا منكم ! ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ! بما حكم الله ، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد : هذا حين أرسل إليهم
عليا فآذوا
محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون بما : -
1348 - حدثنا
موسى قال ، حدثنا
عمرو قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) - من العذاب - " ليحاجوكم به عند ربكم " هؤلاء ناس من
اليهود آمنوا ثم نافقوا ، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به ، فقال بعضهم لبعض : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم ؟
وقال آخرون بما : -
1349 - حدثني
يونس قال ، أخبرنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد في قوله : (
وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) : قال : كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا : أما تعلمون في التوراة كذا وكذا ؟ قالوا : بلى ! - قال : وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم : ما لكم تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق : اذهبوا فقولوا آمنا ، واكفروا إذا رجعتم . قال : فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر وقرأ قول الله : (
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) [ آل عمران : 72 ] . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة : نحن مسلمون . ليعلموا خبر رسول الله صلى الله
[ ص: 254 ] عليه وسلم وأمره ، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر . فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم ، قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون ، فيقولون لهم : أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ؟ فيقولون : بلى ! فإذا رجعوا إلى قومهم [ يعني الرؤساء ] - قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " ، الآية .
وأصل " الفتح " في كلام العرب : النصر والقضاء ، والحكم . يقال منه : " اللهم افتح بيني وبين فلان " ، أي احكم بيني وبينه ، ومنه قول الشاعر :
ألا أبلغ بني عصم رسولا بأني عن فتاحتكم غني
قال
أبو جعفر : قال : ويقال للقاضي : " الفتاح " ومنه قول الله عز وجل : (
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) [ الأعراف : 89 ] أي احكم بيننا وبينهم .
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا ، تبين أن معنى قوله : (
قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم ، وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة . ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير ، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم . وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حجة على المكذبين من
اليهود [ ص: 255 ] المقرين بحكم التوراة ، وغير ذلك [ من أحكامه وقضائه ] .
فإذ كان كذلك . فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث
محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه ؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه : آمنا بما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم ; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها .
وإذا كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون تلاومهم كان فيما بينهم فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم : آمنا
بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به . وكان قيلهم ذلك ، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم ، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . فكان تلاومهم - فيما بينهم إذا خلوا - على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم . وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، ويكفرون به ، وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود ، وحكمه عليهم لهم في كتابهم ، أن يؤمنوا
بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث . فلما بعث كفروا به ، مع علمهم بنبوته .
قال
أبو جعفر : وقوله : ( أفلا تعقلون ) ، خبر من الله تعالى ذكره - عن
اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم : أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون ، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث ، حجة لهم عليكم عند ربكم ، يحتجون بها عليكم ؟ أي : فلا تفعلوا ذلك ، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم ، ولا تخبروهم
[ ص: 256 ] بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك . فقال جل ثناؤه : (
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .