القول في
تأويل قوله تعالى : ( بلى من كسب سيئة )
قال
أبو جعفر : وقوله : (
بلى من كسب سيئة ) تكذيب من الله القائلين من اليهود : (
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) وإخبار منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله ، وأحاطت به ذنوبه ، فمخلده في النار ؛ فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله ، وأهل الطاعة له ، والقائمون بحدوده كما : -
1420 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا
سلمة قال : حدثني
محمد بن إسحاق قال : حدثني
محمد بن أبي محمد ، عن
سعيد بن جبير أو
عكرمة ، عن
ابن عباس : (
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) أي : من عمل مثل أعمالكم ، وكفر بمثل ما كفرتم به ، حتى يحيط كفره بما له من حسنة ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
قال
أبو جعفر : وأما ( بلى ) ، فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد ، كما
[ ص: 281 ] "نعم " إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه . وأصلها "بل " التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك : "ما قام عمرو بل زيد " . فزيد فيها " الياء " ليصلح عليها الوقوف ، إذ كانت "بل " لا يصلح عليها الوقوف ، إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد . ولتكون - أعني "بلى " - رجوعا عن الجحد فقط ، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد ، فدلت "الياء " منها على معنى الإقرار والإنعام . ودل لفظ "بل " على الرجوع عن الجحد .
قال
أبو جعفر : وأما "السيئة " التي ذكر الله في هذا المكان ، فإنها الشرك بالله كما : -
1421 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار قال : حدثنا
يحيى بن سعيد ، عن
سفيان قال : حدثني
عاصم ، عن
أبي وائل : (
بلى من كسب سيئة ) ، قال : الشرك بالله .
1422 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
بلى من كسب سيئة ) شركا .
1423 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله .
1424 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : قوله : (
بلى من كسب سيئة ) ، قال : أما السيئة فالشرك .
1425 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة مثله .
1426 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
[ ص: 282 ] nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
بلى من كسب سيئة ) ، أما السيئة ، فهي الذنوب التي وعد عليها النار .
1427 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال ، قلت
لعطاء : (
بلى من كسب سيئة ) ، قال : الشرك - قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قال
مجاهد : ( سيئة ) شركا .
1428 - حدثت عن
عمار بن الحسن قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قوله : (
بلى من كسب سيئة ) ، يعني : الشرك .
قال
أبو جعفر : وإنما قلنا : إن "السيئة " - التي ذكر الله - جل ثناؤه - أن من كسبها وأحاطت به خطيئته ، فهو من أهل النار المخلدين فيها - في هذا الموضع ، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض ، وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما ؛ لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار ، والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها ، وأن
الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان . فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله : (
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) -
قوله - ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) . فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان .
فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا ، هم الذين عملوا الصالحات ، دون الذين عملوا السيئات ، فإن في إخبار الله أنه مكفر - باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا ، ومدخلنا المدخل الكريم ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل قوله : (
بلى من كسب سيئة ) ، بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها .
فإن قال لنا قائل : فإن الله - جل ثناؤه - إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا
[ ص: 283 ] كبائر ما ننهى عنه ، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله : (
بلى من كسب سيئة ) ؟
قيل : لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه ، وأن المعني بالآية خاص دون عام ، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد ، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه . وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به ، بشهادة جميع الأمة . فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية . فأما أهل الكبائر ، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته ، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها . فمن أنكر ذلك - ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة - فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار ، بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد ؛ إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن ، وكانت الآية يأتي عاما في صنف ظاهرها ، وهي خاص في ذلك الصنف باطنها .
ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء ، سؤالنا منكر رجم الزاني المحصن ، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض ؛ فإن السؤال عليهم ، نظير السؤال على هؤلاء ، سواء .
[ ص: 284 ]