القول في
تأويل قوله تعالى : ( وقولوا للناس حسنا )
قال
أبو جعفر : إن قال قائل : كيف قيل : (
وقولوا للناس حسنا ) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر ، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل : إن الكلام ، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر ، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي . فلو كان مكان : "لا تعبدون إلا الله " ، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا . وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب . وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به ؛ لأن أخذ الميثاق قول .
فكان معنى الكلام - لو كان مقروءا كذلك - : وإذ قلنا لبني إسرائيل : لا تعبدوا إلا الله ، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر : (
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ) [ البقرة : 63 ] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع : (
لا تعبدون إلا الله ) ، عطف بقوله : (
وقولوا للناس حسنا ) ، على موضع ( لا تعبدون ) ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه ؛ لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع "لا تعبدون " . فكأنه قيل : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله ، وقولوا للناس حسنا . وهو نظير ما قدمنا البيان عنه : من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه ، ثم تعود إلى الخبر على
[ ص: 294 ] وجه الخطاب; وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب ، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب ، لما في الحكاية من المعنيين ، كما قال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
يعني : تقليت .
وأما "الحسن " فإن القرأة اختلفت في قراءته . فقرأته عامة قرأة الكوفة غير عاصم : (
وقولوا للناس حسنا ) بفتح الحاء والسين . وقرأته عامة قراء المدينة : ( حسنا ) بضم الحاء وتسكين السين . وقد روي عن بعض القرأة أنه كان يقرأ : "وقولوا للناس " حسنى " على مثال "فعلى " .
واختلف أهل العربية في
فرق ما بين معنى قوله : "حسنا " و "حسنا " . فقال بعض البصريين : هو على أحد وجهين : إما أن يكون يراد ب "الحسن " "الحسن " وكلاهما لغة ، كما يقال : "البخل والبخل " ، وإما أن يكون جعل "الحسن " هو "الحسن " في التشبيه . وذلك أن الحسن "مصدر " و "الحسن " هو الشيء الحسن . ويكون ذلك حينئذ كقولك : "إنما أنت أكل وشرب " ، وكما قال الشاعر :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
[ ص: 295 ] فجعل "التحية " ضربا .
وقال آخر : بل "الحسن " هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن . و"الحسن " هو البعض من معاني "الحسن " . قال : ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين : (
ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) [ العنكبوت : 8 ] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحسن ، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه ، فقال : (
وقولوا للناس حسنا ) ، يعني بذلك بعض معاني الحسن .
قال
أبو جعفر : والذي قاله هذا القائل في معنى "الحسن " بضم الحاء وسكون السين ، غير بعيد من الصواب ، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به . وأما "الحسن " فإنه صفة وقعت لما وصف به ، وذلك يقع بخاص ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالصواب من القراءة في قوله : (
وقولوا للناس حسنا ) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم : "وقولوا للناس " باستعمال الحسن من القول ، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول . وذلك نعت لخاص من معاني الحسن ، وهو القول . فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين ، على قراءته بضم الحاء وسكون السين .
وأما الذي قرأ ذلك : ( وقولوا للناس حسنى ) فإنه خالف بقراءته إياه كذلك ، قراءة أهل الإسلام . وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك ، خروجها من قراءة أهل الإسلام ، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره . فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم ب "فعلى " "وأفعل " إلا بالألف واللام أو بالإضافة . لا يقال : "جاءني أحسن " ، حتى يقولوا : "الأحسن " . ولا يقال : "أجمل " ، حتى يقولوا ، "الأجمل " . وذلك أن "الأفعل" والفعلى " ، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف ، كما تقول : بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى " . وغير جائز أن يقال : امرأة حسنى ، ورجل أحسن .
وأما تأويل
القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل [ ص: 296 ] في هذه الآية ، أن يقولوه للناس ، فهو ما : -
1451 - حدثنا به
أبو كريب قال : حدثنا
عثمان بن سعيد ، عن
بشر بن عمارة ، عن
أبي روق ، عن
الضحاك ، عن
ابن عباس في قوله : (
وقولوا للناس حسنا ) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق : أن يقولوا للناس حسنا : أن يأمروا ب "لا إله إلا الله " من لم يقلها ورغب عنها ، حتى يقولوها كما قالوها ، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه . وقال
الحسن أيضا : لين القول ، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم ، وهو مما ارتضاه الله وأحبه .
1452 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
آدم قال : حدثنا
أبو جعفر ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية : (
وقولوا للناس حسنا ) ، قال : قولوا للناس معروفا .
1453 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثنا
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : (
وقولوا للناس حسنا ) ، قال : صدقا في شأن
محمد صلى الله عليه وسلم .
1454 - وحدثت عن
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون قال ، سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري يقول في قوله : (
وقولوا للناس حسنا ) ، قال : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر .
1455 - حدثني
هارون بن إدريس الأصم قال : حدثنا
عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال : حدثنا
عبد الملك بن أبي سليمان قال ، سألت
عطاء بن أبي رباح ، عن قول الله جل ثناؤه : (
وقولوا للناس حسنا ) ، قال : من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول . قال : وسألت
أبا جعفر ، فقال مثل ذلك .
1456 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
القاسم قال : أخبرنا
عبد الملك ،
[ ص: 297 ] عن
أبي جعفر nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح في قوله : (
وقولوا للناس حسنا ) ، قال : للناس كلهم .
1457 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
عبد الملك ، عن
عطاء مثله .