القول في
تأويل قوله عز ذكره : ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( 13 )
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( 14 ) )
قال
أبو جعفر : يقول عز ذكره : وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم ، حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، وفراق عبادة الآلهة والأوثان
[ ص: 540 ] (
لنخرجنكم من أرضنا ) ، يعنون : من بلادنا فنطردكم عنها (
أو لتعودن في ملتنا ) ، يعنون : إلا أن تعودوا في ديننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام .
وأدخلت في قوله : ( لتعودن ) "لام" وهو في معنى شرط ، كأنه جواب لليمين ، وإنما معنى الكلام : لنخرجنكم من أرضنا ، أو تعودون في ملتنا .
ومعنى "أو" ههنا معنى "إلا" أو معنى "حتى" كما يقال في الكلام : "لأضربنك أو تقر لي" فمن العرب من يجعل ما بعد "أو" في مثل هذا الموضع عطفا على ما قبله ، إن كان ما قبله جزما جزموه ، وإن كان نصبا نصبوه ، وإن كان فيه "لام" جعلوا فيه "لاما" إذ كانت "أو" حرف نسق . ومنهم من ينصب ما بعد "أو" بكل حال ، ليعلم بنصبه أنه عن الأول منقطع عما قبله ، كما قال
امرؤ القيس :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له : لا تبك عينك إنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
فنصب "نموت فنعذرا" وقد رفع "نحاول" لأنه أراد معنى : إلا أن نموت ، أو : حتى نموت .
ومنه قول الآخر :
لا أستطيع نزوعا عن مودتها أو يصنع الحب بي غير الذي صنعا
[ ص: 541 ]
وقوله : (
فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) ، الذين ظلموا أنفسهم ، فأوجبوا لها عقاب الله بكفرهم . وقد يجوز أن يكون قيل لهم : "الظالمون" لعبادتهم من لا تجوز عبادته من الأوثان والآلهة ، فيكون بوضعهم العبادة في غير موضعها ، إذ كان ظلما ، سموا بذلك .
وقوله : (
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) ، هذا وعد من الله من وعد من أنبيائه النصر على الكفرة به من قومه . يقول : لما تمادت أمم الرسل في الكفر ، وتوعدوا رسلهم بالوقوع بهم ، أوحى الله إليهم بإهلاك من كفر بهم من أممهم ووعدهم النصر . وكل ذلك كان من الله وعيدا وتهددا لمشركي قوم نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم على كفرهم به ، وجرأتهم على نبيه ، وتثبيتا
لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمرا له بالصبر على ما لقي من المكروه فيه من مشركي قومه ، كما صبر من كان قبله من أولي العزم من رسله ، ومعرفه أن عاقبة أمر من كفر به الهلاك ، وعاقبته النصر عليهم ، سنة الله في الذين خلوا من قبل .
20611 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : (
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) ، قال : وعدهم النصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة .
وقوله : (
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) ، يقول جل ثناؤه :
[ ص: 542 ] هكذا فعلي لمن خاف مقامه بين يدي ، وخاف وعيدي فاتقاني بطاعته ، وتجنب سخطي ، أنصره على ما أراد به سوءا وبغاه مكروها من أعدائي ، أهلك عدوه وأخزيه ، وأورثه أرضه ودياره .
وقال : (
لمن خاف مقامي ) ، ومعناه ما قلت من أنه لمن خاف مقامه بين يدي بحيث أقيمه هنالك للحساب ، كما قال : (
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) [ سورة الواقعة : 82 ] ، معناه : وتجعلون رزقي إياكم أنكم تكذبون . وذلك أن العرب تضيف أفعالها إلى أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : "قد سررت برؤيتك ، وبرؤيتي إياك" فكذلك ذلك .