القول في
تأويل قوله تعالى : ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( 14 )
لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ( 15 ) )
[ ص: 72 ] اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله (
فظلوا فيه يعرجون ) فقال بعضهم : معنى الكلام : ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لك يا
محمد (
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) بابا من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله (
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ) يقول : لو فتحنا عليهم بابا من السماء ، فظلت الملائكة تعرج فيه ، لقال
أهل الشرك : إنما أخذ أبصارنا ، وشبه علينا ، وإنما سحرنا ، فذلك قولهم : (
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، عن
ابن عباس (
فظلوا فيه يعرجون ) فظلت الملائكة يعرجون فيه يراهم بنو آدم عيانا (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قوله (
يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) قال : ما بين ذلك إلى قوله (
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ) قال : رجع إلى قوله (
لو ما تأتينا بالملائكة ) ما بين ذلك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال
ابن عباس : فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) قال :
قريش تقوله .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ) قال : قال
ابن عباس : لو فتح الله عليهم من السماء بابا فظلت الملائكة تعرج فيه ، يقول : يختلفون فيه جائين وذاهبين (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد بن سليمان ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله (
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون )
[ ص: 73 ] يعني : الملائكة : يقول : لو فتحت على المشركين بابا من السماء ، فنظروا إلى الملائكة تعرج بين السماء والأرض ، لقال المشركون (
نحن قوم مسحورون ) سحرنا وليس هذا بالحق . ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الآية (
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) .
حدثني
المثنى ، قال : ثنا
إسحاق ، قال : ثنا
هشام ، عن
عمر ، عن
نصر ، عن
الضحاك ، في قوله (
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ) قال : لو أني فتحت بابا من السماء تعرج فيه الملائكة بين السماء والأرض ، لقال المشركون (
بل نحن قوم مسحورون ) ألا ترى أنهم قالوا (
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) .
وقال آخرون : إنما عني بذلك : بنو آدم .
ومعنى الكلام عندهم : ولو فتحنا على هؤلاء المشركين من قومك يا
محمد بابا من السماء فظلوا هم فيه يعرجون (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله (
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ) قال
قتادة ، كان
الحسن يقول : لو فعل هذا ببني آدم فظلوا فيه يعرجون أي يختلفون (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) .
وأما قوله (
يعرجون ) فإن معناه : يرقون فيه ويصعدون ، يقال منه : عرج يعرج عروجا إذا رقى وصعد ، وواحدة المعارج : معرج ومعراج ، ومنه قول
كثير :
إلى حسب عود بنا المرء قبله أبوه له فيه معارج سلم وقد حكي عرج يعرج بكسر الراء في الاستقبال . وقوله : (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) يقول : لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جل ثناؤه صفتهم :
[ ص: 74 ] ما هذا بحق إنما سكرت أبصارنا .
واختلفت القراء في قراءة قوله ( سكرت ) فقرأ
أهل المدينة والعراق : ( سكرت ) بتشديد الكاف ، بمعنى : غشيت وغطيت ، هكذا كان يقول
أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لي عنه . وذكر عن
مجاهد أنه كان يقرأ (
لقالوا إنما سكرت ) .
حدثني بذلك
الحرث ، قال : ثنا
القاسم ، قال : سمعت
الكسائي يحدث عن
حمزة ، عن
شبل ، عن
مجاهد أنه قرأها (
سكرت أبصارنا ) خفيفة ، وذهب
مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى : حبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح ، وذلك سكونها وركودها ، يقال منه : سكرت الريح : إذا سكنت وركدت . وقد حكي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : هو مأخوذ من سكر الشراب ، وأن معناه : قد غشى أبصارنا السكر .
وأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ( سكرت ) : سدت .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
ورقاء ، وحدثنا
الحسن بن محمد ، قال : ثنا
شبابة ، قال : ثنا
ورقاء ، وحدثني
المثنى ، قال : ثنا
أبو حذيفة ، قال : ثنا
شبل ، وحدثني
المثنى ، قال : أخبرنا
إسحاق ، قال : ثنا
عبد الله ، عن
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله (
سكرت أبصارنا ) قال : سدت .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثله .
حدثنا
الحسن بن محمد ، قال : ثنا
حجاج ، يعني ابن محمد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : أخبرني
ابن كثير قال : سدت .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول ، في قوله (
سكرت أبصارنا ) يعني : سدت ، فكأن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهدا ذهب في قوله وتأويله ذلك بمعنى : سدت ، إلى أنه بمعنى : منعت النظر ، كما يسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان بالسكر الذي يسكر به .
وقال آخرون : معنى سكرت : أخذت .
[ ص: 75 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة ، عن
ابن عباس (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) يقول : أخذت أبصارنا .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، إنما أخذ أبصارنا ، وشبه علينا ، وإنما سحرنا .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثنا
أبو سفيان ، عن
معمر ، عن
قتادة (
لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) يقول : سحرت أبصارنا ، يقول : أخذت أبصارنا .
حدثني
المثنى ، قال : ثنا
إسحاق ، قال : ثنا
عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنا
شيبان ، عن
قتادة ، قال : من قرأ ( سكرت ) مشددة : يعني سدت ، ومن قرأ ( سكرت ) مخففة ، فإنه يعني سحرت ، وكأن هؤلاء وجهوا معنى قوله ( سكرت ) إلى أن أبصارهم سحرت ، فشبه عليهم ما يبصرون ، فلا يميزون بين الصحيح مما يرون وغيره من قول العرب : سكر على فلان رأيه : إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد ، فلم يدر الصواب فيه من غيره ، فإذا عزم على الرأي قالوا : ذهب عنه التسكير .
وقال آخرون : هو مأخوذ من السكر ، ومعناه : غشي على أبصارنا فلا نبصر ، كما يفعل السكر بصاحبه ، فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلم يبصر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله (
إنما سكرت أبصارنا ) قال : سكرت ، السكران الذي لا يعقل .
وقال آخرون : معنى ذلك : عميت .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
الحسن بن محمد ، قال : ثنا
عبد الوهاب بن عطاء ، عن
الكلبي ( سكرت ) قال : عميت .
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال : معنى ذلك : أخذت أبصارنا وسحرت ، فلا تبصر الشيء على ما هو به ، وذهب حد إبصارها ،
[ ص: 76 ] وانطفأ نوره ، كما يقال للشيء الحار إذا ذهبت فورته ، وسكن حد حره ، قد سكر يسكر ، قال
المثنى بن جندل الطهوي :
جاء الشتاء واجثأل القبر واستخفت الأفعى وكانت تظهر
وجعلت عين الحرور تسكر
أي تسكن وتذهب وتنطفئ ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة :
قبل انصداع الفجر والتهجر وخوضهن الليل حين يسكر يعني : حين تسكن فورته . وذكر عن
قيس أنها تقول : سكرت الريح تسكر سكورا ، بمعنى : سكنت ، وإن كان ذلك عنها صحيحا ، فإن معنى سكرت وسكرت بالتخفيف والتشديد متقاربان ، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن ( سكرت ) بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها ، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه .