القول في تأويل قوله تعالى : (
وأنتم تشهدون ( 84 ) )
قال
أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله : ( وأنتم تشهدون ) . فقال بعضهم : ذلك خطاب من الله تعالى ذكره
لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه ، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها ، فقال الله تعالى لهم : ( ثم أقررتم ) ،
[ ص: 302 ] يعني بذلك ، إقرار أوائلكم وسلفكم ، ( وأنتم تشهدون ) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم ، بأن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم . وممن حكي معنى هذا القول عنه ،
ابن عباس .
1469 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة قال : حدثني
ابن إسحاق قال : حدثني
محمد بن أبي محمد ، عن
سعيد بن جبير ، أو
عكرمة ، عن
ابن عباس قال : (
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) أن هذا حق من ميثاقي عليكم .
وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله - جل ثناؤه عن أوائلهم ، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة ، على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها ، التي قد بينا تأويلها فيما مضى .
وتأولوا قوله : ( وأنتم تشهدون ) ، على معنى : وأنتم شهود .
ذكر من قال ذلك :
1470 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
آدم قال : حدثنا
أبو جعفر ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية قوله : ( وأنتم تشهدون ) ، يقول : وأنتم شهود .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي : أن يكون قوله : ( وأنتم تشهدون ) خبرا عن أسلافهم ، وداخلا فيه المخاطبون منهم ، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان قوله : (
وإذ أخذنا ميثاقكم ) خبرا عن أسلافهم ، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى
أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة ، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد
موسى منهم . ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم
[ ص: 303 ] ذلك الميثاق ، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود ، بقوله : (
ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) . فإذ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم ، فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده ، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة ؛ لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله : (
ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض ، والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم . فإذا كان ذلك كذلك ، فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض . وكذلك حكم الآية التي بعدها ، أعني قوله : (
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) الآية . لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم .