القول في تأويل قوله تعالى : (
وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض )
قال
أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (
وإن يأتوكم أسارى تفادوهم )
اليهود . يوبخهم بذلك ، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها ، فقال لهم : ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم : أن لا تسفكوا دماءكم ، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم - تقتلون أنفسكم يعني به : يقتل بعضكم بعضا وأنتم - مع قتلكم من تقتلون منكم - إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم ، تفدونه ، ويخرج بعضكم بعضا من دياره! وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم ، حرام عليكم ، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم [ حرام عليكم ] ، فكيف تستجيزون قتلهم ، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم ، وتستجيزون قتلهم؟! وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم - سواء ؛ لأن الذي حرمت عليكم
[ ص: 309 ] من قتلهم وإخراجهم من دورهم ، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم ، أفتؤمنون ببعض الكتاب - الذي فرضت عليكم فيه فرائضي ، وبينت لكم فيه حدودي ، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به ، فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه ، فتجحدونه ، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم ، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما : -
1475 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : (
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، [ أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين ، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين ] ؟ والله إن فداءهم لإيمان ، وإن إخراجهم لكفر . فكانوا يخرجونهم من ديارهم ، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم افتكوهم .
1476 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة قال : حدثني
ابن إسحاق قال : حدثني
محمد بن أبي محمد ، عن
سعيد بن جبير ، أو عن
عكرمة ، عن
ابن عباس : ( وإن يأتوكم أسارى تفدوهم ) ، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم ، ( وهو محرم عليكم ) في كتابكم (
إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، أتفادونهم مؤمنين بذلك ، وتخرجونهم كفرا بذلك .
1477 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : ( وإن يأتوكم أسارى تفدوهم ) يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك!
[ ص: 310 ] 1478 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر قال : قال
أبو جعفر : كان
قتادة يقول في قوله : (
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، فكان إخراجهم كفرا ، وفداؤهم إيمانا .
1479 - حدثنا
المثنى قال : حدثنا
آدم قال : حدثنا
أبو جعفر ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية في قوله : (
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) الآية ، قال : كان في بني إسرائيل : إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم ، وقد أخذ عليهم الميثاق : أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، وأخذ عليهم الميثاق : إن أسر بعضهم أن يفادوهم ، فأخرجوهم من ديارهم ، ثم فادوهم ، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض . آمنوا بالفداء ففدوا ، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا .
1480 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
آدم قال : حدثنا
أبو جعفر قال : حدثنا
الربيع بن أنس قال ، أخبرني
أبو العالية : أن
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت
بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ، ولا يفادي من وقع عليه العرب ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك : أن فادوهن كلهن .
1481 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : (
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، قال : كفرهم القتل والإخراج ، وإيمانهم الفداء . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : يقول : إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم ، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ وبلغني أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث .
قال
أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : (
وإن يأتوكم أسارى تفادوهم )
[ ص: 311 ] فقرأه بعضهم : ( أسرى تفدوهم ) ، وبعضهم : ( أسارى تفادوهم ) ، وبعضهم ( أسارى تفدوهم ) ، وبعضهم : ( أسرى تفادوهم ) .
قال
أبو جعفر : فمن قرأ ذلك : ( وإن يأتوكم أسرى ) ، فإنه أراد جمع "الأسير " ، إذ كان على "فعيل " ، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير "فعيل " ، إذ كان "الأسر " شبيه المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني العاهات ، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا ، فقيل : أسير وأسرى " ، كما قيل : "مريض ومرضى ، وكسير وكسرى ، وجريح وجرحى " .
وقال
أبو جعفر : وأما الذين قرءوا ذلك : ( أسارى ) ، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع "فعلان " ، إذ كان جمع "فعلان " الذي له "فعلى " قد يشارك جمع "فعيل " كما قالوا : "سكارى وسكرى ، وكسالى وكسلى " ، فشبهوا "أسيرا " - وجمعوه مرة "أسارى " ، وأخرى "أسرى " - بذلك .
وكان بعضهم يزعم أن معنى "الأسرى " مخالف معنى "الأسارى " ، ويزعم أن معنى "الأسرى " استئسار القوم بغير أسر من المستأسر لهم ، وأن معنى "الأسارى " معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة .
قال
أبو جعفر : وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب . ولكن ذلك على ما وصفت من جمع "الأسير " مرة على "فعلى " لما بينت من العلة ، ومرة على "فعالى " ، لما ذكرت : من تشبيههم جمعه بجمع "سكران وكسلان " وما أشبه ذلك .
وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ ( وإن يأتوكم أسرى ) ، لأن "فعالى " في جمع "فعيل " غير مستفيض في كلام العرب ، فإذا كان ذلك غير مستفيض في كلامهم ، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات - التي بمعنى
[ ص: 312 ] الآلام والزمانة - وواحده على تقدير "فعيل " ، على "فعلى " ، كالذي وصفنا قبل ، وكان أحد ذلك "الأسير " ، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله ، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها .
وأما من قرأ : ( تفادوهم ) ، فإنه أراد : أنكم تفدونهم من أسرهم ، ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم .
وأما من قرأ ذلك ( تفدوهم ) ، فإنه أراد : إنكم يا معشر
اليهود ، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم .
وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني : ( أسرى تفادوهم ) - لأن الذي على
اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال ، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم .
وأما قوله : (
وهو محرم عليكم إخراجهم ) ، فإن في قوله : ( وهو ) وجهين من التأويل . أحدهما : أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره . كأنه قال : وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، وإخراجهم محرم عليكم ، ثم كرر "الإخراج " الذي بعد "وهو محرم عليكم " تكريرا على "هو " ؛ لما حال بين "الإخراج " و"هو " كلام .
والتأويل الثاني : أن يكون عمادا ، لما كانت " الواو " التي مع "هو " تقتضي اسما يليها دون الفعل ؛ فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه "الواو " أن يليها - أوليت "هو " ؛ لأنه اسم ، كما تقول : "أتيتك وهو قائم أبوك " ، بمعنى : "وأبوك قائم " ؛ إذ كانت "الواو " تقتضي اسما ، فعمدت ب "هو " ، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام . كما قال الشاعر :
[ ص: 313 ] فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته على العيس في آباطها عرق يبس بأن السلامي الذي بضرية
أمير الحمى ، قد باع حقي ، بني عبس بثوب ودينار وشاة ودرهم
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس
فأوليت "هل " "هو " لطلبها الاسم العماد .