صفحة جزء
القول في تأويل قوله : : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) .

وقوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) ، إبانة عن الصراط المستقيم ، أي الصراط هو ؟ إذ كان كل طريق من طرق الحق صراطا مستقيما . فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين .

وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه في تنزيله : [ ص: 178 ] ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) [ سورة النساء : 66 - 69 ] .

قال أبو جعفر : فالذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يسألوا ربهم من الهداية للطريق المستقيم ، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته . وذلك الطريق ، هو طريق الذين وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله ، ووعد من سلكه فاستقام فيه طائعا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يورده مواردهم ، والله لا يخلف الميعاد .

وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس وغيره .

188 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " صراط الذين أنعمت عليهم " يقول : طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، الذين أطاعوك وعبدوك .

189 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر عن ربيع : " صراط الذين أنعمت عليهم " ، قال : النبيون .

190 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " أنعمت عليهم " قال : المؤمنين .

191 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : قال وكيع : " أنعمت عليهم " ، المسلمين . [ ص: 179 ]

192 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله " صراط الذين أنعمت عليهم " ، قال : النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه .

قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم ، وتوفيقه إياهم لها . أو لا يسمعونه يقول : " صراط الذين أنعمت عليهم " ، فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم ؟

فإن قال قائل : وأين تمام هذا الخبر ؟ وقد علمت أن قول القائل لآخر : "أنعمت عليك " ، مقتض الخبر عما أنعم به عليه ، فأين ذلك الخبر في قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " ؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم ؟

قيل له : قد قدمنا البيان - فيما مضى من كتابنا هذا - عن إجراء العرب في منطقها ببعض من بعض ، إذا كان البعض الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيا منه . فقوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " من ذلك . لأن أمر الله جل ثناؤه عباده بمسألته المعونة ، وطلبهم منه الهداية للصراط المستقيم ، لما كان متقدما قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " ، الذي هو إبانة عن الصراط المستقيم وإبدال منه - كان معلوما أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمرنا بمسألته الهداية لطريقهم ، هو المنهاج القويم والصراط المستقيم ، الذي قد قدمنا البيان عن تأويله آنفا ، فكان ظاهر ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين - مغنيا عن تكراره .

كما قال نابغة بني ذبيان :


كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن

[ ص: 180 ]

يريد : كأنك من جمال بني أقيش ، جمل يقعقع خلف رجليه بشن ، فاكتفى بما ظهر من ذكر "الجمال " الدال على المحذوف ، من إظهار ما حذف . وكما قال الفرزدق بن غالب :


ترى أرباقهم متقلديها     إذا صدئ الحديد على الكماة



يريد : متقلديها هم ، فحذف "هم " ، إذ كان الظاهر من قوله أرباقهم ، دالا عليها .

والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى . فكذلك ذلك في قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " .

التالي السابق


الخدمات العلمية