القول في تأويل قوله تعالى : (
بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( 44 ) )
يقول تعالى ذكره : أرسلنا بالبينات والزبر رجالا نوحي إليهم .
فإن قال قائل : وكيف قيل بالبينات والزبر ، وما الجالب لهذه الباء في قوله ( بالبينات ) فإن قلت : جالبها قوله ( أرسلنا ) وهي من صلته ، فهل يجوز أن تكون صلة "ما" قبل "إلا" بعدها؟ وإن قلت : جالبها غير ذلك ، فما هو؟ وأين الفعل الذي جلبها ، قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعضهم : الباء التي في قوله ( بالبينات ) من صلة أرسلنا ، وقال : إلا في هذا الموضع ، ومع الجحد والاستفهام في كل موضع بمعنى غير ، وقال : معنى الكلام : وما أرسلنا من قبلكم بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم ، ويقول على ذلك : ما ضرب إلا أخوك زيدا ، وهل كلم إلا أخوك عمرا ، بمعنى : ما ضرب زيدا غير أخيك ، وهل كلم عمرا إلا أخوك؟ ويحتج في ذلك بقول
أوس بن حجر :
أبني لبينى لستم بيد إلا يد ليست لها عضد
ويقول : لو كانت "إلا" بغير معنى لفسد الكلام ، لأن الذي خفض الباء قبل
[ ص: 210 ] إلا لا يقدر على إعادته بعد إلا لخفض اليد الثانية ، ولكن معنى إلا معنى غير ، ويستشهد أيضا بقول الله عز وجل (
لو كان فيهما آلهة إلا الله ) ويقول : إلا بمعنى غير في هذا الموضع ، وكان غيره يقول : إنما هذا على كلامين ، يريد : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا أرسلنا بالبينات والزبر ، قال : وكذلك قول القائل : ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه : ما ضرب إلا أخوك ، ثم يبتدئ ضرب زيدا ، وكذلك ما مر إلا أخوك بزيد ما مر إلا أخوك ، ثم يقول : مر بزيد ، ويستشهد على ذلك ببيت
الأعشى :
وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيبا
ويقول : لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ ، لأن المتعيبا من صلة القائل ، ولكن جاز ذلك على كلامين وكذلك قول الآخر
[ ص: 211 ] :
نبئتهم عذبوا بالنار جارهم وهل يعذب إلا الله بالنار
فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر ، وأنزلنا إليك الذكر . والبينات : هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله . والزبر : هي الكتب ، وهي جمع زبور ، من زبرت الكتاب وذبرته : إذا كتبته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
بالبينات والزبر ) قال : الزبر : الكتب .
حدثنا
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
بالبينات والزبر ) قال : الآيات . والزبر : الكتب .
حدثني
المثنى ، قال : ثنا
أبو حذيفة ، قال : ثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : الزبر : الكتب .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد بن سليمان ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله ( بالزبر ) يعني : بالكتب .
وقوله : (
وأنزلنا إليك الذكر ) يقول : وأنزلنا إليك يا
محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم ، (
لتبين للناس ) يقول : لتعرفهم ما أنزل إليهم من ذلك (
ولعلهم يتفكرون ) يقول : وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنزلنا إليك ، وقد حدثني
المثنى ، قال : ثنا
إسحاق ، قال : ثنا
عبد الرزاق ، قال : ثنا
الثوري ، قال : قال
مجاهد (
ولعلهم يتفكرون ) قال : يطيعون .