القول في تأويل قوله تعالى : (
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ( 62 ) )
يقول تعالى ذكره : ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم . (
وتصف ألسنتهم الكذب ) يقول : وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه ، أن لهم الحسنى ، فأن في موضع نصب ، لأنها ترجمة عن الكذب . وتأويل الكلام : ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم ، ويزعمون أن لهم الحسنى ، الذي يكرهونه لأنفسهم . البنات يجعلونهن لله تعالى ، وزعموا أن الملائكة بنات الله . وأما الحسنى التي جعلوها لأنفسهم : فالذكور من الأولاد ، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم ، ويستبقون الذكور منهم ، ويقولون : لنا الذكور ولله البنات ، وهو نحو قوله (
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون )
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
[ ص: 232 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء وحدثني
المثنى ، قال : أخبرنا
أبو حذيفة ، قال : ثنا
شبل وحدثني
المثنى ، قال : أخبرنا
إسحاق ، قال : ثنا
عبد الله ، عن
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) قال : قول
قريش : لنا البنون ولله البنات .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : قول كفار
قريش .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله (
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ) : أي يتكلمون بأن لهم الحسنى أي الغلمان .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
أن لهم الحسنى ) قال : الغلمان .
وقوله (
لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) يقول تعالى ذكره : حقا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات ، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم ، ولأنفسهم الحسنى عند الله يوم القيامة النار .
وقد بينا تأويل قول الله ( لا جرم ) في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وروي عن
ابن عباس في ذلك ، ما حدثني
المثنى ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله ( لا جرم ) يقول : بلى .
وقوله : ( لا جرم ) كان بعض أهل العربية يقول : لم تنصب جرم بلا كما نصبت الميم من قول : لا غلام لك ; قال : ولكنها نصبت لأنها فعل ماض ، مثل قول القائل : قعد فلان وجلس ، والكلام : لا رد لكلامهم أي ليس الأمر هكذا ، جرم : كسب ، مثل قوله لا أقسم ، ونحو ذلك . وكان بعضهم يقول : نصب جرم بلا وإنما هو بمعنى : لا بد ، ولا محالة ; ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقا .
وقوله : (
وأنهم مفرطون ) يقول تعالى ذكره : وأنهم مخلفون متروكون في النار ، منسيون فيها .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك .
[ ص: 233 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار nindex.php?page=showalam&ids=13631وابن وكيع ، قالا ثنا
محمد بن جعفر ، قال : ثنا
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير في هذه الآية (
لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) قال : منسيون مضيعون .
حدثني
موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15945زيد بن حباب ، قال : أخبرنا
سعيد ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
بهز بن أسد ، عن
شعبة ، قال : أخبرني
أبو بشر ، عن
سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا
هشيم ، قال : أخبرنا
أبو بشر ، عن
سعيد بن جبير ، في قوله (
لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) قال : متروكون في النار ، منسيون فيها .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا
هشيم ، قال :
حصين ، أخبرنا ، عن
سعيد بن جبير ، بمثله .
حدثني
المثنى ، قال : أخبرنا
الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا
هشيم ، عن
حصين ، عن
سعيد بن جبير بمثله .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
وأنهم مفرطون ) قال : منسيون .
حدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء وحدثني
المثنى ، قال : أخبرنا
أبو حذيفة ، قال : ثنا
شبل وحدثني
المثنى ، قال : أخبرنا
إسحاق ، قال : ثنا
عبد الله ، عن
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
حدثنا
ابن وكيع ، قال : ثنا عبدة
وأبو معاوية وأبو خالد ، عن
جويبر ، عن
الضحاك (
وأنهم مفرطون ) قال : متروكون في النار .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
القاسم ، عن
مجاهد ( مفرطون ) قال : منسيون .
حدثني
عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن
الحسين ، عن
قتادة (
وأنهم مفرطون ) يقول : مضاعون .
حدثنا ابن
المثنى ، قال : ثنا
بدل ، قال : ثنا
عباد بن راشد ، قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند ، في قول الله (
وأنهم مفرطون ) قال : منسيون في النار .
[ ص: 234 ] وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم معجلون إلى النار مقدمون إليها ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب : أفرطنا فلانا في طلب الماء ، إذا قدموه لإصلاح الدلاء والأرشية ، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه فهو مفرط . فأما المتقدم نفسه فهو فارط ، يقال : قد فرط فلان أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا : إذا تقدمهم وجمع فارط : فراط ومنه قول
القطامي :
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=810739أنا فرطكم على الحوض " : أي متقدمكم إليه وسابقكم "حتى تردوه" .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وأنهم مفرطون ) يقول : معجلون إلى النار .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
وأنهم مفرطون ) قال : قد أفرطوا في النار أي معجلون .
وقال آخرون . معنى ذلك : مبعدون في النار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن
أشعث السمان ، عن
الربيع ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد (
وأنهم مفرطون ) قال : مخسئون مبعدون .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه ، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم ، إنما يقال فيمن قدم مقدما لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدمه عليه ، وليس بمقدم من قدم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها لوارد يرد عليها فيها فيوافقه مصلحا ، وإنما تقدم من قدم إليها لعذاب يعجل له . فإذا كان معنى ذلك الإفراط الذي هو تأويل التعجيل ففسد أن يكون له
[ ص: 235 ] وجه في الصحة ، صح المعنى الآخر ، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك . وذلك أنه يحكى عن العرب : ما أفرطت ورائي أحدا : أي ما خلفته ; وما فرطته : أي لم أخلفه .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المصرين
الكوفة والبصرة (
وأنهم مفرطون ) بتخفيف الراء وفتحها ، على معنى ما لم يسم فاعله من أفرط فهو مفرط . وقد بينت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل . وقرأه
أبو جعفر القارئ . "وأنهم مفرطون" بكسر الراء وتشديدها ، بتأويل : أنهم مفرطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا ، من طاعته وحقوقه ، مضيعو ذلك ، من قول الله تعالى (
يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ) وقرأ
نافع بن أبي نعيم : "وأنهم مفرطون" بكسر الراء وتخفيفها .
حدثني بذلك
يونس ، عن
ورش عنه ، بتأويل : أنهم مفرطون في الذنوب والمعاصي ، مسرفون على أنفسهم مكثرون منها ، من قولهم : أفرط فلان في القول : إذا تجاوز حده ، وأسرف فيه .
والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل
العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل ، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم .