1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة النحل
  4. القول في تأويل قوله تعالى "ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى "
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ( 62 ) )

يقول تعالى ذكره : ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم . ( وتصف ألسنتهم الكذب ) يقول : وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه ، أن لهم الحسنى ، فأن في موضع نصب ، لأنها ترجمة عن الكذب . وتأويل الكلام : ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم ، ويزعمون أن لهم الحسنى ، الذي يكرهونه لأنفسهم . البنات يجعلونهن لله تعالى ، وزعموا أن الملائكة بنات الله . وأما الحسنى التي جعلوها لأنفسهم : فالذكور من الأولاد ، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم ، ويستبقون الذكور منهم ، ويقولون : لنا الذكور ولله البنات ، وهو نحو قوله ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون )

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

[ ص: 232 ] ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) قال : قول قريش : لنا البنون ولله البنات .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : قول كفار قريش .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ) : أي يتكلمون بأن لهم الحسنى أي الغلمان .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( أن لهم الحسنى ) قال : الغلمان .

وقوله ( لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) يقول تعالى ذكره : حقا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات ، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم ، ولأنفسهم الحسنى عند الله يوم القيامة النار .

وقد بينا تأويل قول الله ( لا جرم ) في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وروي عن ابن عباس في ذلك ، ما حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( لا جرم ) يقول : بلى .

وقوله : ( لا جرم ) كان بعض أهل العربية يقول : لم تنصب جرم بلا كما نصبت الميم من قول : لا غلام لك ; قال : ولكنها نصبت لأنها فعل ماض ، مثل قول القائل : قعد فلان وجلس ، والكلام : لا رد لكلامهم أي ليس الأمر هكذا ، جرم : كسب ، مثل قوله لا أقسم ، ونحو ذلك . وكان بعضهم يقول : نصب جرم بلا وإنما هو بمعنى : لا بد ، ولا محالة ; ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقا .

وقوله : ( وأنهم مفرطون ) يقول تعالى ذكره : وأنهم مخلفون متروكون في النار ، منسيون فيها .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك .

[ ص: 233 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية ( لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) قال : منسيون مضيعون .

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا زيد بن حباب ، قال : أخبرنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا بهز بن أسد ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) قال : متروكون في النار ، منسيون فيها .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : حصين ، أخبرنا ، عن سعيد بن جبير ، بمثله .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير بمثله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وأنهم مفرطون ) قال : منسيون .

حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبدة وأبو معاوية وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ( وأنهم مفرطون ) قال : متروكون في النار .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم ، عن مجاهد ( مفرطون ) قال : منسيون .

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن الحسين ، عن قتادة ( وأنهم مفرطون ) يقول : مضاعون .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا بدل ، قال : ثنا عباد بن راشد ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، في قول الله ( وأنهم مفرطون ) قال : منسيون في النار .

[ ص: 234 ] وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم معجلون إلى النار مقدمون إليها ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب : أفرطنا فلانا في طلب الماء ، إذا قدموه لإصلاح الدلاء والأرشية ، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه فهو مفرط . فأما المتقدم نفسه فهو فارط ، يقال : قد فرط فلان أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا : إذا تقدمهم وجمع فارط : فراط ومنه قول القطامي :


واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا فرطكم على الحوض " : أي متقدمكم إليه وسابقكم "حتى تردوه" .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وأنهم مفرطون ) يقول : معجلون إلى النار .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وأنهم مفرطون ) قال : قد أفرطوا في النار أي معجلون .

وقال آخرون . معنى ذلك : مبعدون في النار .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أشعث السمان ، عن الربيع ، عن أبي بشر ، عن سعيد ( وأنهم مفرطون ) قال : مخسئون مبعدون .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه ، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم ، إنما يقال فيمن قدم مقدما لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدمه عليه ، وليس بمقدم من قدم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها لوارد يرد عليها فيها فيوافقه مصلحا ، وإنما تقدم من قدم إليها لعذاب يعجل له . فإذا كان معنى ذلك الإفراط الذي هو تأويل التعجيل ففسد أن يكون له [ ص: 235 ] وجه في الصحة ، صح المعنى الآخر ، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك . وذلك أنه يحكى عن العرب : ما أفرطت ورائي أحدا : أي ما خلفته ; وما فرطته : أي لم أخلفه .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المصرين الكوفة والبصرة ( وأنهم مفرطون ) بتخفيف الراء وفتحها ، على معنى ما لم يسم فاعله من أفرط فهو مفرط . وقد بينت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل . وقرأه أبو جعفر القارئ . "وأنهم مفرطون" بكسر الراء وتشديدها ، بتأويل : أنهم مفرطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا ، من طاعته وحقوقه ، مضيعو ذلك ، من قول الله تعالى ( يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ) وقرأ نافع بن أبي نعيم : "وأنهم مفرطون" بكسر الراء وتخفيفها .

حدثني بذلك يونس ، عن ورش عنه ، بتأويل : أنهم مفرطون في الذنوب والمعاصي ، مسرفون على أنفسهم مكثرون منها ، من قولهم : أفرط فلان في القول : إذا تجاوز حده ، وأسرف فيه .

والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل ، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية