القول في
تأويل قوله تعالى : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( 91 ) )
يقول تعالى ذكره : وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه ، وعقده إذا عاقدتموه ، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه به وواثقتموه عليه (
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) يقول : ولا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه الأيمان ، يعني بعد ما شددتم الأيمان على أنفسكم ، فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها بعد إبرامها ، يقال منه : وكد فلان يمينه يوكدها توكيدا : إذا شددها وهي لغة أهل
الحجاز ، وأما أهل نجد ، فإنهم يقولون : أكدتها أؤكدها تأكيدا . وقوله : (
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) يقول : وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيا يرعى الموفي منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف بينهم فيمن عني بهذه الآية وفيما أنزلت ، فقال بعضهم : عني بها الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، وفيهم أنزلت .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا
عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا
أبو ليلى ، عن
بريدة ، قوله (
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) قال : أنزلت هذه الآية في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من أسلم بايع على الإسلام ، فقالوا (
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام (
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) البيعة ، فلا يحملكم قلة
محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام ، وإن كان فيهم قلة ، والمشركون فيهم كثرة .
وقال آخرون : نزلت في الحلف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في
[ ص: 282 ] الجاهلية ، فأمرهم الله عز وجل في الإسلام أن يوفوا به ولا ينقضوه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قول الله تعالى (
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) قال : تغليظها في الحلف .
حدثني
المثنى ، قال : ثنا
أبو حذيفة ، قال : ثنا
شبل وحدثني
المثنى ، قال : ثنا
إسحاق ، قال : ثنا
عبد الله عن
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله (
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) يقول : بعد تشديدها وتغليظها .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد : هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد ، فجاءهم قوم ، فقالوا : نحن أكثر وأعز وأمنع ، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا ، فذلك قول الله تعالى (
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) أن تكون أمة هي أربى من أمة ، هي أربى أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر من أولئك ، نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء ، فكان هذا في هذا .
حدثني
ابن البرقي ، قال : ثنا
ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا
نافع بن يزيد ، قال : سألت
يحيى بن سعيد ، عن قول الله (
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) قال : العهود .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم ، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحق مما لا يكرهه الله . وجائز أن تكون نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين ، وأن تكون نزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم ، وجائز أن تكون في غير ذلك . ولا خبر تثبت به الحجة أنها
[ ص: 283 ] نزلت في شيء من ذلك دون شيء ; ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أي ذلك عني بها ، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قلنا لدلالة ظاهره عليه ، وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب ، ويكون الحكم بها عاما في كل ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد (
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) قال : وكيلا .
وقوله : (
إن الله يعلم ما تفعلون ) يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الناس يعلم ما تفعلون في العهود التي تعاهدون الله من الوفاء بها والأحلاف والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم ، أتبرون فيها أم تنقضونها وغير ذلك من أفعالكم ، محص ذلك كله عليكم ، وهو مسائلكم عنها وعما عملتم فيها ، يقول : فاحذروا الله أن تلقوه وقد خالفتم فيها أمره ونهيه ، فتستوجبوا بذلك منه ما لا قبل لكم به من أليم عقابه .