القول في تأويل قوله تعالى : (
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 ) )
[ ص: 303 ]
اختلف أهل العربية في العامل في " من " من قوله (
من كفر بالله ) ومن قوله (
ولكن من شرح بالكفر صدرا ) ، فقال بعض نحويي
البصرة : صار قوله ( فعليهم ) خبرا لقوله (
ولكن من شرح بالكفر صدرا ) ، وقوله (
من كفر بالله من بعد إيمانه ) فأخبر لهم بخبر واحد ، وكان ذلك يدل على المعنى . وقال بعض نحويي
الكوفة : إنما هذان جزءان اجتمعا ، أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى : من يحسن ممن يأتنا نكرمه . قال : وكذلك كل جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأول ، فالجواب لهما واحد . وقال آخر من أهل
البصرة : بل قوله (
من كفر بالله ) مرفوع بالرد على الذين في قوله (
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ) ومعنى الكلام عنده : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئن بالإيمان ، وهذا قول لا وجه له . وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول ، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين ولدوا على الكفر وأقاموا عليه ، ولم يؤمنوا قط ، وخص به الذين قد كانوا آمنوا في حال ، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان ، والتنزيل يدل على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين ، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب ، فقال : (
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ) وكذب جميع المشركين بافترائهم على الله وأخبر أنهم أحق بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال (
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) ، ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم ، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أنت مفتر حين بدل الله آية مكان آية ، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ، لأن هذه في سياق الخبر عنهم ، وذلك قول إن قاله قائل ، فبين فساده مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل .
والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع لمن الأولى والثانية ، قوله
[ ص: 304 ] (
فعليهم غضب من الله ) والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر .
وذكر أن هذه الآية نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم ، فثبت على الإسلام بعضهم ، وافتتن بعض .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله (
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) . . . إلى آخر الآية ، وذلك أن المشركين أصابوا
nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر فعذبوه ، ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي لقي من
قريش ، والذي قال : فأنزل الله تعالى ذكره عذره (
من كفر بالله من بعد إيمانه ) . . . إلى قوله ( ولهم عذاب عظيم ) .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) قال : ذكر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر
بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره ، فأنزل الله تعالى ذكره (
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا ) : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب ، (
فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
عبد الكريم الجزري ، عن
أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=812359أخذ المشركون nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر ، فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعد " .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
هشيم ، عن
حصين ، عن
أبي مالك ، في قوله (
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) قال : نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
جرير ، عن
مغيرة ، عن
الشعبي ، قال : لما
[ ص: 305 ] عذب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا
nindex.php?page=showalam&ids=211خباب بن الأرت ، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا .
فتأويل الكلام إذن : من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره على الكفر ، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان ، وباح به طائعا ، فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر ، عن
ابن عباس .
حدثني
علي بن داود ، قال : ثنا
عبد الله بن صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله (
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه ، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم ، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه ، فلا حرج عليه ، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .