القول في تأويل قوله تعالى : (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( 29 ) )
وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى للممتنع من الإنفاق في الحقوق التي أوجبها في أموال ذوي الأموال ، فجعله كالمشدودة يده إلى عنقه ، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء .
وإنما معنى الكلام : ولا تمسك يا
محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله ، فلا تنفق فيها شيئا إمساك المغلولة يده إلى عنقه ، الذي لا يستطيع بسطها (
ولا تبسطها كل البسط ) يقول : ولا تبسطها بالعطية كل البسط ، فتبقى لا شيء عندك ، ولا تجد إذا سئلت شيئا تعطيه سائلك (
فتقعد ملوما محسورا ) يقول : فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك ، وتلومك نفسك على الإسراع في مالك وذهابه ، محسورا : يقول : معيبا ، قد انقطع بك ، لا شيء عندك تنفقه ، وأصله من قولهم للدابة التي قد سير عليها حتى انقطع سيرها ، وكلت ورزحت من السير ، بأنه حسير . يقال منه : حسرت الدابة فأنا أحسرها ، وأحسرها حسرا ، وذلك إذا أنضيته بالسير ، وحسرته بالمسألة إذا سألته فألحفت ، وحسر البصر فهو يحسر ، وذلك إذا بلغ أقصى المنظر فكل . ومنه قوله عز وجل (
ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) وكذلك ذلك في كل شيء كل وأزحف حتى يضنى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : ثنا
هودة ، قال
[ ص: 434 ] : ثنا
عوف ، عن
الحسن ، في قوله (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) قال : لا تجعلها مغلولة عن النفقة (
ولا تبسطها ) : تبذر بسرف .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
يوسف بن بهز ، قال : ثنا
حوشب ، قال : كان
الحسن إذا تلا هذه الآية (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) يقول : لا تطفف برزقي عن غير رضاي ، ولا تضعه في سخطي فأسلبك ما في يديك ، فتكون حسيرا ليس في يديك منه شيء .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) يقول هذا في النفقة ، يقول (
لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) يقول : لا تبسطها بالخير (
ولا تبسطها كل البسط ) يعني التبذير (
فتقعد ملوما ) يقول : يلوم نفسه على ما فات من ماله ( محسورا ) يعني : ذهب ماله كله فهو محسور .
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) يعني بذلك البخل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) أي لا تمسكها عن طاعة الله ، ولا عن حقه (
ولا تبسطها كل البسط ) يقول : لا تنفقها في معصية الله ، ولا فيما يصلح لك ، ولا ينبغي لك ، وهو الإسراف ، قوله (
فتقعد ملوما محسورا ) قال : ملوما في عباد الله ، محسورا على ما سلف من دهره وفرط .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) قال : في النفقة ، يقول : لا تمسك عن النفقة (
ولا تبسطها كل البسط ) يقول : لا تبذر تبذيرا (
فتقعد ملوما ) في عباد الله ( محسورا ) يقول : نادما على ما فرط منك .
[ ص: 435 ]
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق (
ولا تبسطها كل البسط ) فيما نهيتك (
فتقعد ملوما ) قال : مذنبا ( محسورا ) قال : منقطعا بك .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) قال : مغلولة لا تبسطها بخير ولا بعطية (
ولا تبسطها كل البسط ) في الحق والباطل ، فينفذ ما معك ، وما في يديك ، فيأتيك من يريد أن تعطيه فيحسر بك ، فيلومك حين أعطيت هؤلاء ، ولم تعطهم .