صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ( 97 ) )

يقول تعالى ذكره : ومن يهد الله يا محمد للإيمان به ، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك ، فوفقه لذلك ، فهو المهتد الرشيد المصيب الحق ، لا من هداه غيره ، فإن الهداية بيده . ( ومن يضلل ) يقول : ومن يضلله الله عن الحق ، فيخذله عن إصابته ، ولم يوفقه للإيمان بالله وتصديق رسوله ، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله ، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم .

( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ) يقول : ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرقهم في القبور عند قيام الساعة ( على وجوههم عميا وبكما ) وهو جمع أبكم ، ويعني بالبكم : الخرس .

كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وبكما ) قال : الخرس ( وصما ) وهو جمع أصم .

فإن قال قائل : وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وصما ، وقد قال ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) فأخبر أنهم يرون ، وقال ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) [ ص: 560 ] فأخبر أنهم يسمعون وينطقون؟ قيل : جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العمى والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة ، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أخر غير حال الحشر ، ويجوز أن يكون ذلك ، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي حدثنيه علي بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) ثم قال ( ورأى المجرمون النار فظنوا ) وقال ( سمعوا لها تغيظا وزفيرا ) وقال ( دعوا هنالك ثبورا ) أما قوله ( عميا ) فلا يرون شيئا يسرهم . وقوله ( بكما ) لا ينطقون بحجة ، وقوله ( صما ) لا يسمعون شيئا يسرهم ، وقوله ( مأواهم جهنم ) يقول جل ثناؤه : ومصيرهم إلى جهنم ، وفيها مساكنهم ، وهم وقودها .

كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( مأواهم جهنم ) يعني إنهم وقودها .

وقوله ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) يعني بقوله خبت : لانت وسكنت ، كما قال عدي بن زيد العبادي في وصف مزنة :


وسطه كاليراع أو سرج المجدل حينا يخبو وحينا ينير



يعني بقوله : يخبو السرج : أنها تلين وتضعف أحيانا ، وتقوى وتنير أخرى ، ومنه قول القطامي : [ ص: 561 ]


فيخبو ساعة ويهب ساعا



وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن تأويله .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله ( كلما خبت ) قال : سكنت .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) يقول : كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئا صارت جمرا تتوهج ، فذلك خبوها ، فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ( كلما خبت ) قال : خبوها أنها تسعر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم ، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهج ، فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) يقول : كلما احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ، ليذوقوا العذاب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) قال : كلما لان منها شيء . [ ص: 562 ]

حدثت عن مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك ( كلما خبت ) قال : سكنت . وقوله ( زدناهم سعيرا ) يقول : زدنا هؤلاء الكفار سعيرا ، وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوها ، في أجسامهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية