القول في
تأويل قوله تعالى : ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا )
يقول تعالى ذكره : وبالحق أنزلنا هذا القرآن : يقول : أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة ، والأمور المستحسنة الحميدة ، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة ، والأخلاق الردية ، والأفعال الذميمة (
وبالحق نزل ) يقول : وبذلك نزل من عند الله على نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله (
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا
محمد إلى من أرسلناك إليه من عبادنا ، إلا مبشرا بالجنة من أطاعنا ، فانتهى إلى أمرنا ونهينا ، ومنذرا لمن عصانا وخالف أمرنا ونهينا (
وقرآنا فرقناه لتقرأه ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار ( فرقناه ) بتخفيف الراء من فرقناه ، بمعنى : أحكمناه وفصلناه وبيناه ، وذكر عن
ابن عباس ، أنه كان يقرؤه بتشديد الراء " فرقناه " بمعنى : نزلناه شيئا بعد شيء ، آية بعد آية ، وقصة بعد قصة .
[ ص: 574 ]
وأولى القراءتين بالصواب عندنا ، القراءة الأولى ، لأنها القراءة التي عليها الحجة مجمعة ، ولا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن ، فإذا كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فتأويل الكلام : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ، وفصلناه قرآنا ، وبيناه وأحكمناه ، لتقرأه على الناس على مكث .
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله (
وقرآنا فرقناه ) يقول : فصلناه .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
أبي جعفر ، عن
أبي الربيع عن
أبي العالية ، عن
أبي بن كعب أنه قرأ (
وقرآنا فرقناه ) مخففا : يعني بيناه .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : قال
ابن عباس (
وقرآنا فرقناه ) قال : فصلناه .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثنا
بدل بن المحبر ، قال : ثنا
عباد ، يعني ابن راشد ، عن
داود ، عن
الحسن أنه قرأ (
وقرآنا فرقناه ) خففها : فرق الله بين الحق والباطل .
وأما الذين قرءوا القراءة الأخرى ، فإنهم تأولوا ما قد ذكرت من التأويل .
ذكر من قال ما حكيت من التأويل عن قارئ ذلك كذلك : حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
أبي جعفر ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية ، قال : كان
ابن عباس يقرؤها : " وقرآنا فرقناه " مثقلة ، يقول : أنزل آية آية .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا
داود ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس ، قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ، قال (
ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) ، "
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " .
[ ص: 575 ]
حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : "
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس " لم ينزل جميعا ، وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
وقرآنا فرقناه ) قال : فرقه : لم ينزله جميعه . وقرأ (
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) . . . حتى بلغ (
وأحسن تفسيرا ) ينقض عليهم ما يأتون به .
وكان بعض أهل العربية من أهل
الكوفة يقول : نصب قوله ( وقرآنا ) بمعنى : ورحمة ، ويتأول ذلك (
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) ورحمة ، ويقول : جاز ذلك ، لأن القرآن رحمة ، ونصبه على الوجه الذي قلناه أولى ، وذلك كما قال جل ثناؤه (
والقمر قدرناه منازل ) وقوله (
لتقرأه على الناس على مكث ) يقول : لتقرأه على الناس على تؤدة ، فترتله وتبينه ، ولا تعجل في تلاوته ، فلا يفهم عنك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
سفيان ، عن
عبيد المكتب قال : قلت
لمجاهد : رجل قرأ البقرة وآل عمران ، وآخر قرأ البقرة ، وركوعهما وسجودهما واحد ، أيهما أفضل؟ قال : الذي قرأ البقرة ، وقرأ (
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) .
حدثني
علي ، قال : ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله (
لتقرأه على الناس على مكث ) يقول : على تأييد .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله (
على مكث ) قال : على ترتيل .
[ ص: 576 ]
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قوله (
لتقرأه على الناس على مكث ) قال : في ترتيل .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد في قوله (
لتقرأه على الناس على مكث ) قال : التفسير الذي قال الله (
ورتل القرآن ترتيلا ) : تفسيره .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
الثوري ، عن
عبيد ، عن
مجاهد ، قوله (
لتقرأه على الناس على مكث ) على تؤدة ، وفي المكث للعرب لغات : مكث ، ومكث ، ومكث ومكيثى مقصور ، ومكثانا ، والقراءة بضم الميم .
وقوله (
ونزلناه تنزيلا ) يقول تعالى ذكره : فرقنا تنزيله ، وأنزلناه شيئا بعد شيء .
كما حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، قال : حدثنا ، عن
أبي رجاء ; قال : تلا
الحسن : "
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " قال : كان الله تبارك وتعالى ينزل هذا القرآن بعضه قبل بعض لما علم أنه سيكون ويحدث في الناس ، لقد ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة ، قال : فسألته يوما على سخطة ، فقلت : يا أبا سعيد "
وقرآنا فرقناه " فثقلها أبو رجاء ، فقال الحسن : ليس فرقناه ، ولكن فرقناه ، فقرأ الحسن مخففة ، قلت : من يحدثك هذا يا أبا سعيد أصحاب محمد ، قال : فمن يحدثنيه ، قال : أنزل عليه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ثماني سنين ، وبالمدينة عشر سنين .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله (
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) لم ينزل في ليلة ولا ليلتين ، ولا شهر ولا شهرين ، ولا سنة ولا سنتين ، ولكن كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، وما شاء الله من ذلك .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، عن
الحسن ، [ ص: 577 ] قال : كان يقول : أنزل على نبي الله القرآن ثماني سنين ، وعشرا بعد ما هاجر . وكان
قتادة يقول : عشرا
بمكة ، وعشرا
بالمدينة .