[ ص: 591 ] بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الكهف
القول في
تأويل قوله عز ذكره : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الحمد لله الذي خص برسالته
محمدا وانتخبه لبلاغها عنه ، فابتعثه إلى خلقه نبيا مرسلا وأنزل عليه كتابه قيما ، ولم يجعل له عوجا .
وعنى بقوله عز ذكره : ( قيما ) معتدلا مستقيما ، وقيل : عنى به : أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها .
ذكر من قال عنى به معتدلا مستقيما : حدثني
علي بن داود ، قال : ثنا
عبد الله بن صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
ولم يجعل له عوجا قيما ) يقول : أنزل الكتاب عدلا قيما ، ولم يجعل له عوجا ، فأخبر
ابن عباس بقوله هذا مع بيانه معنى القيم أن القيم مؤخر بعد قوله ، ولم يجعل له عوجا ، ومعناه التقديم بمعنى : أنزل الكتاب على عبده قيما .
حدثت عن
محمد بن زيد ، عن
جويبر ، عن
الضحاك ، في قوله ( قيما ) قال : مستقيما .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق (
ولم يجعل له عوجا قيما ) : أي معتدلا لا اختلاف فيه .
حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : (
ولم يجعل له عوجا قيما ) قال : أنزل الله الكتاب قيما ، ولم يجعل له عوجا .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، في قوله (
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ) .
قال : وفي بعض القراءات : " ولكن جعله قيما " .
والصواب من القول في ذلك عندنا : ما قاله
ابن عباس ، ومن قال بقوله في ذلك ، لدلالة قوله : (
ولم يجعل له عوجا ) فأخبر جل ثناؤه أنه أنزل الكتاب
[ ص: 592 ] الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ( قيما ) مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، بل بعضه يصدق بعضا ، وبعضه يشهد لبعض ، لا عوج فيه ، ولا ميل عن الحق ، وكسرت العين من قوله ( عوجا ) لأن العرب كذلك تقول في كل اعوجاج كان في دين ، أو فيما لا يرى شخصه قائما ، فيدرك عيانا منتصبا كالعاج في الدين ، ولذلك كسرت العين في هذا الموضع ، وكذلك العوج في الطريق ، لأنه ليس بالشخص المنتصب ، فأما ما كان من عوج في الأشخاص المنتصبة قياما ، فإن عينها تفتح كالعوج في القناة ، والخشبة ، ونحوها ، وكان
ابن عباس يقول في معنى قوله (
ولم يجعل له عوجا ) : ولم يجعل له ملتبسا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
علي ، قال : ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس (
ولم يجعل له عوجا قيما ) ولم يجعل له ملتبسا .
ولا خلاف أيضا بين أهل العربية في أن معنى قوله ( قيما ) وإن كان مؤخرا ، التقديم إلى جنب الكتاب ، وقيل إنما افتتح جل ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بما هو له أهل ، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من
أهل مكة ، بأن
محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن
المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير ، وأمروهم بمسآلتهموه عنها ، وقالوا : إن أخبركم بها فهو نبي ، وإن لم يخبركم بها فهو متقول ، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا ، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء ، وتأخر مجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم ، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعده ، وأنه متقول ، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم ، وافتتح أولها بذكره ، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدثوها بينهم .
ذكر من قال ذلك : حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17416يونس بن بكير ، عن
محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل
مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس ، فيما يروي
أبو جعفر الطبري قال :
بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، [ ص: 593 ] فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالت لهم أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فرأوا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك ، فإنه نبي فاتبعوه ، وإن هو لم يخبركم ، فهو رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش ، فقالا يا معشر قريش : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله ، عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا ، فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبركم غدا بما سألتم عنه ، ولم يستثن فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام ، من الله عز وجل ، بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [ ص: 594 ] قال ابن إسحاق : فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) يعني محمدا إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوته ( ولم يجعل له عوجا قيما ) : أي معتدلا لا اختلاف فيه .