[ ص: 5 ] القول في
تأويل قوله تعالى : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( 28 ) )
يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : ( واصبر ) يا
محمد (
نفسك مع ) أصحابك (
الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها ( يريدون ) بفعلهم ذلك ( وجهه ) لا يريدون عرضا من عرض الدنيا .
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله (
يدعون ربهم بالغداة والعشي ) في سورة الأنعام ، والصواب من القول في ذلك عندنا ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، والقراء على قراءة ذلك (
بالغداة والعشي ) ، وقد ذكر عن
عبد الله بن عامر nindex.php?page=showalam&ids=12067وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه ( ( بالغدوة والعشي ) ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة ، لأن غدوة معرفة ، ولا ألف ولا لام فيها ، وإنما يعرف بالألف واللام ما لم يكن معرفة ، فأما المعارف فلا تعرف بهما ، وبعد ، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء ، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها ، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة ، وإنما تقول العرب : أتيتك غداة الجمعة ، ولا تقول : أتيتك غدوة الجمعة ، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القراء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك ، وللعلة التي بينا من جهة العربية .
[ ص: 6 ]
وقوله : (
ولا تعد عيناك عنهم ) يقول جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا
محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار ، ولا تجاوزهم إليه ، وأصله من قولهم : عدوت ذلك ، فأنا أعدوه : إذا جاوزته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : قال
ابن عباس ، في قوله : (
ولا تعد عيناك عنهم ) قال : لا تجاوزهم إلى غيرهم .
حدثني
علي ، قال : ثني
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
ولا تعد عيناك عنهم ) يقول : لا تتعدهم إلى غيرهم .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
واصبر نفسك ) . . . الآية ، قال : قال القوم للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا ، فجانبهم يا محمد ، وجالس أشراف العرب ، فنزل القرآن (
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ) ولا تحقرهم ، قال : قد أمروني بذلك ، قال : (
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) .
حدثنا
الربيع بن سليمان ، قال : ثنا
ابن وهب ، قال : أخبرني
أسامة بن زيد ، عن
أبي حازم ، عن
عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=811658أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) فخرج يلتمس ، فوجد قوما يذكرون الله ، منهم ثائر الرأس ، وجاف الجلد ، وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم ، فقال : "الحمد لله الذي جعل لي في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معه " ورفعت العينان بالفعل ، وهو لا تعد .
وقوله : (
تريد زينة الحياة الدنيا ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تعد عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين ، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر ، وذلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=812400أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 7 ] أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك ، وقال بعضهم : بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام ، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال ، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا ، قالوا : فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عليه : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ثم كان يقوم إذا أراد القيام ، ويتركهم قعودا ، فأنزل الله عليه ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) الآية (
ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) يريد زينة الحياة الدنيا : مجالسة أولئك العظماء الأشراف . وقد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام .
حدثني
الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا
أسباط بن نصر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
أبي سعيد الأزدي ، وكان قارئ
الأزد عن
أبي الكنود ، عن
خباب في قصة ذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر (
ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) قال : تجالس الأشراف .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : أخبرت
أن عيينة بن حصن قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم : لقد آذاني ريح سلمان الفارسي ، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه ، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه ، فنزلت الآية .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : ذكر لنا أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=3502042لما نزلت هذه الآية قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه " .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله (
تريد زينة الحياة الدنيا ) قال : تريد أشراف الدنيا .
حدثنا
صالح بن مسمار ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15490الوليد بن عبد الملك ، قال :
سليمان بن عطاء ، عن
مسلمة بن عبد الله الجهني ، عن عمه أبي
مشجعة بن ربعي ، عن
سلمان الفارسي ، قال :
جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم ، فقالوا : يا نبي الله ، إنك لو جلست في صدر المسجد ، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم [ ص: 8 ] يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف ، ولم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك ، وأخذنا عنك ، فأنزل الله : ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا ) ، حتى بلغ ( إنا أعتدنا للظالمين نارا ) يتهددهم بالنار ، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله ، فقال : "الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات " .
وقوله : (
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تطع يا
محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي عنك ، عن ذكرنا ، بالكفر وغلبة الشقاء عليه ، واتبع هواه ، وترك اتباع أمر الله ونهيه ، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه ، وهم فيما ذكر :
عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم .
حدثني
الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
أبي سعيد الأزدي ، عن
أبي الكنود ، عن
خباب (
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) قال : عيينة ، والأقرع .
وأما قوله : (
وكان أمره فرطا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وكان أمره ضياعا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : (
وكان أمره فرطا ) قال
ابن عمرو في حديثه قال : ضائعا . وقال
الحارث في حديثه : ضياعا .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، قال : ضياعا .
وقال آخرون : بل معناه : وكان أمره ندما .
[ ص: 9 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، قال : ثنا
بدل بن المحبر ، قال : ثنا
عباد بن راشد ، عن
داود ( فرطا ) قال : ندامة .
وقال آخرون : بل معناه : هلاكا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
الحسين بن عمرو ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
أبي سعيد الأزدي ، عن
أبي الكنود ، عن
خباب (
وكان أمره فرطا ) قال : هلاكا .
وقال آخرون : بل معناه : خلافا للحق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد : (
وكان أمره فرطا ) قال : مخالفا للحق ، ذلك الفرط .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : ضياعا وهلاكا ، من قولهم : أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا : إذا أسرف فيه وتجاوز قدره ، وكذلك قوله (
وكان أمره فرطا ) معناه : وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر ، واحتقار أهل الإيمان ، سرفا قد تجاوز حده ، فضيع بذلك الحق وهلك .
وقد : حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
أبو بكر بن عياش ، قال : قيل له : كيف قرأ
عاصم؟ فقال (
وكان أمره فرطا ) قال
أبو كريب : قال
أبو بكر : كان
عيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا .