القول في تأويل قوله تعالى : (
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ( 32 )
كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا ( 33 )
[ ص: 19 ] وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ( 34 ) )
يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : واضرب يا
محمد لهؤلاء المشركين بالله ، الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ( مثلا ) مثل (
رجلين جعلنا لأحدهما جنتين ) أي جعلنا له بستانين من كروم (
وحففناهما بنخل ) يقول : وأطفنا هذين البستانين بنخل . وقوله : (
وجعلنا بينهما زرعا ) يقول : وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا ، وقوله : (
كلتا الجنتين آتت أكلها ) يقول : كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع . وقال : كلتا الجنتين ، ثم قال : آتت ، فوحد الخبر ، لأن كلتا لا يفرد واحدتها ، وأصله كل ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا ، ويذهبون بها وهي مفردة إلى التثنية ، قال بعض الرجاز في ذلك :
في كلت رجليها سلامى واحده كلتاهما مقرونة بزائده
يريد بكلت : كلتا ، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلى معرفة ، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد ، وقوله : (
ولم تظلم منه شيئا ) يقول : ولم تنقص من الأكل شيئا ، بل آتت ذلك تاما كاملا ومنه قولهم : ظلم فلان فلانا حقه : إذا بخسه ونقصه ، كما قال الشاعر :
تظلمني مالي كذا ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
[ ص: 20 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
ولم تظلم منه شيئا ) : أي لم تنقص ، منه شيئا .
وقوله : (
وفجرنا خلالهما نهرا ) يقول تعالى ذكره :
وسيلنا خلال هذين البستانين نهرا ، يعني بينهما وبين أشجارهما نهرا . وقيل : ( وفجرنا ) فثقل الجيم منه ، لأن التفجير في النهر كله ، وذلك أنه يميد ماء فيسيل بعضه بعضا .
وقوله : (
وكان له ثمر ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء
الحجاز والعراق : "وكان له ثمر" بضم الثاء والميم . واختلف قارئو ذلك كذلك ، فقال بعضهم : كان له ذهب وفضة ، وقالوا : ذلك هو الثمر ، لأنها أموال مثمرة ، يعني مكثرة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله عز وجل : (
وكان له ثمر ) قال : ذهب وفضة ، وفي قول الله عز وجل : (
بثمره ) قال : هي أيضا ذهب وفضة .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال :
[ ص: 21 ] ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، في قوله ( ثمر ) قال : ذهب وفضة . قال : وقوله : (
وأحيط بثمره ) هي هي أيضا .
وقال آخرون : بل عني به : المال الكثير من صنوف الأموال .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أحمد بن يوسف ، قال : ثنا
القاسم ، قال : ثني
حجاج ، عن
هارون ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة ، عن
قتادة ، قال : قرأها
ابن عباس : "وكان له ثمر" بالضم ، وقال : يعني أنواع المال .
حدثنا
علي ، قال : ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس : "وكان له ثمر" يقول : مال .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، في قوله : "وكان له ثمر" يقول : من كل المال .
حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله (
وأحيط بثمره ) قال : الثمر من المال كله يعني الثمر ، وغيره من المال كله .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثنا
أبو سفيان ، عن
معمر ، عن
قتادة ، قال : "الثمر" المال كله ، قال : وكل مال إذا اجتمع فهو ثمر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله .
وقال آخرون : بل عني به الأصل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : "وكان له ثمر" الثمر الأصل ، قال " وأحيط بثمره" قال : بأصله ، وكأن الذين وجهوا معناها إلى أنها أنواع من المال ، أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر ، كما يجمع الكتاب كتبا ، والحمار حمرا ، وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء في هذه القراءة "ثمر" بضم الثاء وسكون الميم ، وهو يريد الضم فيها ، غير أنه سكنها طلب التخفيف ، وقد يحتمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة ، كما تجمع الخشبة خشبا . وقرأ ذلك بعض
المدنيين : (
وكان له ثمر ) بفتح الثاء والميم ، بمعنى جمع الثمرة ، كما تجمع الخشبة خشبا ، والقصبة قصبا .
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ " وكان له ثمر " بضم الثاء والميم لإجماع الحجة من القراء عليه وإن كانت جمع ثمار ، كما الكتب جمع كتاب .
ومعنى الكلام : (
وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ) منهما " ثمر " بمعنى من جنتيه أنواع من الثمار وقد بين ذلك لمن وفق لفهمه ، قوله :
[ ص: 22 ] (
جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ) ثم قال : وكان له من هذه الكروم والنخل والزرع ثمر .
وقوله : (
فقال لصاحبه وهو يحاوره ) يقول عز وجل : فقال هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب ، لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه :
(
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) يقول : وأعز عشيرة ورهطا ، كما قال
عيينة والأقرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن سادات العرب ، وأرباب الأموال ، فنح عنا سلمان
وخبابا وصهيبا ، احتقارا لهم ، وتكبرا عليهم .
كما حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) وتلك والله أمنية الفاجر : كثرة المال ، وعزة النفر .