القول في
تأويل قوله تعالى : ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ( 59 ) )
يقول تعالى ذكره : وتلك القرى من
عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكنا أهلها لما ظلموا ، فكفروا بالله وآياته ، (
وجعلنا لمهلكهم موعدا ) يعني ميقاتا وأجلا حين بلغوه جاءهم عذاب فأهلكناهم به ، يقول : فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك يا
محمد الذين لا يؤمنون بك أبدا موعدا ، إذا جاءهم ذلك
[ ص: 54 ] الموعد أهلكناهم سنتنا في الذين خلوا من قبلهم من ضربائهم .
كما حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى "ح" ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
لمهلكهم موعدا ) قال : أجلا .
حدثنا
القاسم ، قال : ثني
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثله .
واختلفت القراء في قراءة قوله ( لمهلكهم ) فقرأ ذلك عامة قراء
الحجاز والعراق : "لمهلكهم" بضم الميم وفتح اللام على توجيه ذلك إلى أنه مصدر من أهلكوا إهلاكا ، وقرأه
عاصم : "لمهلكهم" بفتح الميم واللام على توجيهه إلى المصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا .
وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك قراءة من قرأه : "لمهلكهم" بضم الميم وفتح اللام لإجماع الحجة من القراء عليه ، واستدلالا بقوله : (
وتلك القرى أهلكناهم ) فأن يكون المصدر من أهلكنا ، إذ كان قد تقدم قبله أولى . وقيل : أهلكناهم ، وقد قال قبل : (
وتلك القرى ) ، لأن الهلاك إنما حل بأهل القرى ، فعاد إلى المعنى ، وأجرى الكلام عليه دون اللفظ .
وقال بعض نحويي البصرة : قال : (
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ) يعني أهلها ، كما قال : (
واسأل القرية ) ولم يجئ بلفظ القرى ، ولكن أجرى اللفظ على القوم ، وأجرى اللفظ في القرية عليها إلى قوله (
التي كنا فيها ) ، وقال : (
أهلكناهم ) ولم يقل : أهلكناها حمله على القوم ، كما قال : جاءت
تميم ، وجعل الفعل
لبني تميم ، ولم يجعله
لتميم ، ولو فعل ذلك لقال : جاء
تميم ، وهذا لا يحسن في نحو هذا ، لأنه قد أراد غير
تميم في نحو هذا الموضع ، فجعله اسما ، ولم يحتمل إذا اعتل أن يحذف ما قبله كله معنى التاء من جاءت مع
بني تميم ، وترك الفعل على ما كان ليعلم أنه قد حذف شيئا قبل
تميم ، وقال بعضهم : إنما جاز أن يقال : تلك القرى أهلكناهم ، لأن القرية قامت مقام الأهل ، فجاز أن ترد على الأهل مرة وعليها مرة ، ولا يجوز ذلك في
تميم ، لأن القبيلة تعرف به وليس تميم هو القبيلة ، وإنما عرفت القبيلة به ، ولو كانت القبيلة قد سميت بالرجل
[ ص: 55 ] لجرت عليه ، كما تقول : وقعت في هود ، تريد في سورة هود ، وليس هود اسما للسورة ، وإنما عرفت السورة به ، فلو سميت السورة بهود لم يجز ، فقلت : وقعت في هود يا هذا ، فلم يجز ، وكذلك لو سمى
بني تميم تميما لقيل : هذه
تميم قد أقبلت ، فتأويل الكلام : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ، وجعلنا لإهلاكهم موعدا .