صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ( 22 ) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ( 23 ) ) [ ص: 166 ]

وفي هذا الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه فنفخنا فيه من روحنا بغلام فحملته فانتبذت به مكانا قصيا وبذلك جاء تأويل أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سهل ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ابن أخي وهب بن منبه ، قال : سمعت وهبا قال : لما أرسل الله جبريل إلى مريم تمثل لها بشرا سويا فقالت له : ( إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : لما قال ذلك ، يعني لما قال جبريل ( قال كذلك قال ربك هو علي هين ) . . . . الآية ، استسلمت لأمر الله ، فنفخ في جيبها ثم انصرف عنها .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : طرحت عليها جلبابها لما قال جبريل ذلك لها ، فأخذ جبريل بكميها ، فنفخ في جيب درعها ، وكان مشقوقا من قدامها ، فدخلت النفخة صدرها ، فحملت ، فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة تزورها; فلما فتحت لها الباب التزمتها ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم أشعرت أني حبلى ، قالت مريم : أشعرت أيضا أني حبلى ، قالت امرأة زكريا : إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله ( مصدقا بكلمة من الله ) .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : يقولون : إنه إنما نفخ في جيب درعها وكمها .

وقوله ( فانتبذت به مكانا قصيا ) يقول : فاعتزلت بالذي حملته ، وهو عيسى ، وتنحت به عن الناس مكانا قصيا يقول : مكانا نائيا قاصيا عن الناس ، يقال : هو بمكان قاص ، وقصي بمعنى واحد ، كما قال الراجز : [ ص: 167 ]


لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي



يقال منه : قصا المكان يقصو قصوا : إذا تباعد ، وأقصيت الشيء : إذا أبعدته وأخرته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( فانتبذت به مكانا قصيا ) قال : مكانا نائيا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( مكانا قصيا ) قال : قاصيا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما بلغ أن تضع مريم ، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه فأتت أقصاه .

وقوله ( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ) يقول تعالى ذكره : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة ، ثم قيل : لما أسقطت الباء منه أجاءها ، كما يقال : أتيتك بزيد ، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا ، كما قال جل ثناؤه ( آتوني زبر الحديد ) والمعنى : بزبر الحديد ، ولكن الألف مدت لما حذفت الباء ، وكما قالوا : خرجت به وأخرجته ، وذهبت به وأذهبته ، وإنما هو أفعل من المجيء ، [ ص: 168 ] كما يقال : جاء هو ، وأجأته أنا : أي جئت به ، ومثل من أمثال العرب" : شر ما أجاءني إلى مخة عرقوب" ، وأشاء ويقال : شر ما يجيئك ويشيئك إلى ذلك ; ومنه قول زهير :


وجار سار معتمدا إليكم     أجاءته المخافة والرجاء



يعنى : جاء به ، وأجاءه إلينا وأشاءك : من لغة تميم ، وأجاءك من لغة أهل العالية ، وإنما تأول من تأول ذلك بمعنى : ألجأها ، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة ، كان قد ألجأها إليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( فأجاءها المخاض ) قال : المخاض ألجأها .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ألجأها المخاض . قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ) يقول : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ) قال : اضطرها إلى جذع النخلة .

واختلفوا في أي المكان الذي انتبذت مريم بعيسى لوضعه ، وأجاءها إليه المخاض ، فقال بعضهم : كان ذلك في أدنى أرض مصر ، وآخر أرض الشأم ، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم . [ ص: 1 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سهل ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها قرابة لها ، يقال له يوسف النجار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون ، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم ، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد ، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم ، فرغبا في ذلك ، فكانا يليان معالجته بأنفسهما ، تحبيره وكناسته وطهوره ، وكل عمل يعمل فيه ، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشد اجتهادا وعبادة منهما ، فكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف ; فلما رأى الذي بها استفظعه ، وعظم عليه ، وفظع به ، فلم يدر على ماذا يضع أمرها ، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ، ذكر صلاحها وبراءتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قط; وإذا أراد أن يبرئها ، رأى الذي ظهر عليها; فلما اشتد عليه ذلك كلمها ، فكان أول كلامه إياها أن قال لها : إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته ، وقد حرصت على أن أميته وأكتمه في نفسي ، فغلبني ذلك ، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري ، قالت : فقل قولا جميلا قال : ما كنت لأقول لك إلا ذلك ، فحدثيني ، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت : نعم ، قال : فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت : نعم ، قال : فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر; أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث ، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده ، أم تقول : لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء ، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ قال يوسف لها : لا أقول هذا ، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون ، قالت مريم : أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال : بلى ، فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى ، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه ، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك ، ثم تولى يوسف خدمة المسجد ، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه ، وذلك لما رأى من رقة جسمها ، واصفرار لونها ، وكلف [ ص: 170 ] وجهها ، ونتو بطنها ، وضعف قوتها ، ودأب نظرها ، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك; فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ، وقتلوا ولدك ، فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حبلى ، وقد بشرت بيحيى ، فلما التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدا معترفا لعيسى ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء ، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها ، أدرك مريم النفاس ، ألجأها إلى آري حمار ، يعنى مذود الحمار ، وأصل نخلة ، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرا "الشك من أبي جعفر " ، فاشتد على مريم المخاض; فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة ، قاموا صفوفا محدقين بها .

وقد روي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا ، وذلك ما حدثنا به ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما حضر ولادها ، يعني مريم ، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء ، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم ، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء ، فوضعته عندها .

وقال آخرون : بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جذع النخلة ، وذلك قول السدي ، وقد ذكرت الرواية به قبل .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما هي إلا أن حملت فوضعت .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول : ليس إلا أن حملت فولدت .

وقوله : ( يا ليتني مت قبل هذا ) ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس . [ ص: 171 ]

كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) تقول : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بعل ، وكنت نسيا منسيا : شيئا نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر ، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسي . ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، مثل الوتر والوتر ، والجسر والجسر ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا; وبالكسر قرأت عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ; وبالفتح قرأه أهل الكوفة ; ومنه قول الشاعر :


كأن لها في الأرض نسيا تقصه     إذا ما غدت وإن تحدثك تبلت



ويعني بقوله : تقصه : تطلبه ، لأنها كانت نسيته حتى ضاع ، ثم ذكرته فطلبته ، ويعني بقوله : تبلت : تحسن وتصدق ، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا ، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول : نسيته نسيانا ونسيا ، كما قال بعضهم من طاعة الرب وعصي الشيطان ، يعني "وعصيان" ، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا ، كما قال الشاعر :


أتي الفواحش فيهم معروفة     ويرون فعل المكرمات حراما



وقوله ( منسيا ) مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت : ليتني كنت الشيء الذي ألقي ، فترك ونسي .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 172 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) لم أخلق ، ولم أك شيئا .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( وكنت نسيا منسيا ) يقول : نسيا : نسي ذكري ، ومنسيا : تقول : نسي أثري ، فلا يرى لي أثر ولا عين .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وكنت نسيا منسيا ) : أي شيئا لا يعرف ولا يذكر .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله ( وكنت نسيا منسيا ) قال : لا أعرف ولا يدرى من أنا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ( نسيا منسيا ) قال : هو السقط .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) لم أكن في الأرض شيئا قط .

التالي السابق


الخدمات العلمية