القول في
تأويل قوله تعالى : ( فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ( 26 ) )
يقول تعالى ذكره : فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من ماء السري الذي جعله ربك تحتك ، لا تخشي جوعا ولا عطشا (
وقري عينا ) يقول : وطيبي نفسا وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار . وإنما معنى الكلام : ولتقرر عينك بولدك ، ثم حول الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين ، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير ، نظير ما فعل بقوله (
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) وإنما هو :
[ ص: 182 ] فإن طابت أنفسهن لكم . وقوله (
وضاق بهم ذرعا ) ومنه قوله "يساقط عليك رطبا جنيا" إنما هو يساقط عليك رطب الجذع ، فحول الفعل إلى الجذع ، في قراءة من قرأه بالياء . وفي قراءة من قرأ : ( تساقط ) بالتاء ، معناه : يساقط عليك رطب النخلة ، ثم حول الفعل إلى النخلة .
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله ( وقري )
فأما أهل
المدينة فقرءوه ( وقري ) بفتح القاف على لغة من قال : قررت بالمكان أقر به ، وقررت عينا ، أقر به قرورا ، وهي لغة
قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة .
وأما أهل
نجد فإنها تقول قررت به عينا أقر به قرارا وقررت بالمكان أقر به ، فالقراءة على لغتهم : (
وقري عينا ) بكسر القاف ، والقراءة عندنا على لغة
قريش بفتح القاف .
وقوله (
فإما ترين من البشر أحدا ) يقول : فإن رأيت من بني
آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتك (
فقولي إني نذرت للرحمن صوما ) يقول : فقولي : إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألا أكلم أحدا من بني
آدم اليوم (
فلن أكلم اليوم إنسيا )
وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت
أنس بن مالك يقول في هذه الآية (
إني نذرت للرحمن صوما ) صمتا .
حدثني
زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا
حجاج ، قال : أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : أخبرني
المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت
أنس بن مالك يقول (
إني نذرت للرحمن صوما ) قال : صمتا .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله (
إني نذرت للرحمن صوما ) قال : يعني بالصوم : الصمت .
حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
سليمان التيمي ، قال : سمعت
[ ص: 183 ] أنسا "وإني نذرت للرحمن صوما وصمتا" .
حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة (
إني نذرت للرحمن صوما ) أما قوله ( صوما ) فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله (
نذرت للرحمن صوما ) قال : كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام ، إلا من ذكر الله ، فقال لها ذلك ، فقالت : إني أصوم من الكلام كما أصوم من الطعام ، إلا من ذكر الله; فلما كلموها أشارت إليه ، فقالوا (
كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) فأجابهم فقال (
إني عبد الله آتاني الكتاب ) حتى بلغ (
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) .
واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر ، فقال بعضهم : أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة ، وذلك أنها جاءت وهي أيم بولد بالكف عن الكلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17221هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : ثنا
مصعب بن المقدام ، قال : ثنا
إسرائيل ، قال : ثنا
أبو إسحاق ، عن
حارثة ، قال : كنت عند
ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك؟ فقال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال
عبد الله : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها السلام .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد لما قال عيسى لمريم ( لا تحزني ) قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس (
يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام (
فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) قال : هذا كله كلام عيسى لأمه .
[ ص: 184 ]
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه (
فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) فإني سأكفيك الكلام .
وقال آخرون : إنما كان ذلك آية
لمريم وابنها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله (
إني نذرت للرحمن صوما ) قال في بعض الحروف : صمتا وذلك إنك لا تلقى امرأة جاهلة تقول : نذرت كما نذرت مريم ، ألا تكلم يوما إلى الليل ، وإنما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها ، ولا يحل لأحد أن
ينذر صمت يوم إلى الليل .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، فقرأ (
إني نذرت للرحمن صوما ) وكانت تقرأ في الحرف الأول : صمتا ، وإنما كانت آية بعثها الله لمريم وابنها .
وقال آخرون : بل كانت صائمة في ذلك اليوم ، والصائم في ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس ، فأذن
لمريم في قدر هذا الكلام ذلك اليوم وهي صائمة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
موسى ، قال : ثنا
عمرو ، قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي (
فإما ترين من البشر أحدا ) يكلمك (
فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي ، فقيل لها : لا تزيدي على هذا .