القول في
تأويل قوله تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ( 124 )
قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ( 125 )
يقول تعالى ذكره (
ومن أعرض عن ذكري ) الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه (
فإن له معيشة ضنكا ) يقول : فإن له معيشة ضيقة ، والضنك من المنازل والأماكن والمعايش الشديد ، يقال : هذا منزل ضنك : إذا كان ضيقا ، وعيش ضنك : الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد; ومنه قول
عنترة :
وإن نزلوا بضنك أنزل
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
عبد الله قال : ثني
معاوية عن
علي عن
ابن عباس قوله (
فإن له معيشة ضنكا ) يقول : الشقاء .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
[ ص: 391 ] مجاهد قوله ( ضنكا ) قال : ضيقة .
حدثنا
الحسن قال : ثنا
عبد الرزاق عن
معمر عن
قتادة في قوله (
فإن له معيشة ضنكا ) قال : الضنك : الضيق .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
حكام عن
عنبسة عن
محمد بن عبد الرحمن عن
القاسم بن أبي بزة عن
مجاهد في قوله (
فإن له معيشة ضنكا ) يقول : ضيقة .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد مثله .
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك والحال التي جعلهم فيها ، فقال بعضهم : جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم ، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو بن علي بن مقدم قال : ثنا
يحيى بن سعيد عن
عوف عن
الحسن في قوله : (
فإن له معيشة ضنكا ) قال : في جهنم .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) فقرأ حتى بلغ (
ولم يؤمن بآيات ربه ) قال : هؤلاء أهل الكفر ، قال : ومعيشة ضنكا في النار شوك من نار وزقوم وغسلين ، والضريع : شوك من نار ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة ، ما المعيشة والحياة إلا في الآخرة ، وقرأ قول الله عز وجل (
ياليتني قدمت لحياتي ) قال : لمعيشتي ، قال : والغسلين والزقوم : شيء لا يعرفه أهل الدنيا .
حدثنا
الحسن قال : ثنا
عبد الرزاق عن
معمر عن
قتادة (
فإن له معيشة ضنكا ) قال : في النار .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فإن له معيشة في الدنيا حراما قال : ووصف الله جل وعز معيشتهم بالضنك ، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن حميد قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=11953يحيى بن واضح قال : ثنا
الحسين بن واقد عن
يزيد عن
عكرمة في قوله : (
معيشة ضنكا )
[ ص: 392 ] قال : هي المعيشة التي أوسع الله عليه من الحرام .
حدثني
داود بن سليمان بن يزيد المكتب من
أهل البصرة ، قال : ثنا
عمرو بن جرير البجلي عن
إسماعيل بن أبي خالد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16834قيس بن أبي حازم في قول الله (
معيشة ضنكا ) قال : رزقا في معصيته .
حدثني
عبد الأعلى بن واصل قال : ثنا
يعلى بن عبيد ، قال : ثنا
أبو بسطام ، عن
الضحاك (
فإن له معيشة ضنكا ) قال : الكسب الخبيث .
حدثني
محمد بن إسماعيل الصراري قال : ثنا
محمد بن سوار قال : ثنا
أبو اليقظان عمار بن محمد عن
هارون بن محمد التيمي عن
الضحاك في قوله (
فإن له معيشة ضنكا ) قال : العمل الخبيث ، والرزق السيئ .
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا ، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله ، وإياس من فضل الله ، وسوء ظن منهم بربهم ، فتشتد لذلك عليهم معيشتهم وتضيق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله (
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) يقول : كل مال أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه ، لا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة . ويقال : إن قوما ضلالا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عز وجل ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذب بالله ، ويسيء الظن به ، اشتدت عليه معيشته ، فذلك الضنك .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : أن ذلك لهم في البرزخ ، وهو عذاب القبر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يزيد بن مخلد الواسطي قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15800خالد بن عبد الله عن
عبد الرحمن بن إسحاق عن
أبي حازم عن
النعمان بن أبي عياش عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري قال في قول الله (
معيشة ضنكا ) قال : عذاب
[ ص: 393 ] القبر .
حدثني
محمد بن عبد الله بن بزيع قال : ثنا
بشر بن المفضل قال : ثنا
عبد الرحمن بن إسحاق عن
أبي حازم عن
النعمان بن أبي عياش عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري قال : إن المعيشة الضنك التي قال الله عذاب القبر .
حدثني
حوثرة بن محمد المنقري قال : ثنا
سفيان عن
أبي حازم عن
أبي سلمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري (
فإن له معيشة ضنكا ) قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه .
حدثني
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : ثنا أبي
وشعيب بن الليث عن
الليث قال : ثنا
خالد بن زيد عن
ابن أبي هلال عن
أبي حازم عن
أبي سعيد أنه كان يقول : المعيشة الضنك : عذاب القبر ، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتخدش لحمه حتى يبعث ، وكان يقال : لو أن تنينا منها نفخ الأرض لم تنبت زرعا .
حدثنا
مجاهد بن موسى قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
محمد بن عمرو عن
أبي سلمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : يطبق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهي المعيشة الضنك التي قال الله (
معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) .
حدثنا
أبو كريب قال : ثنا
جابر بن نوح عن
إسماعيل بن أبي خالد عن
أبي صالح nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي في قوله (
معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر .
حدثنا
محمد بن إسماعيل الأحمسي قال : ثنا
محمد بن عبيد قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري عن
إسماعيل بن أبي خالد عن
أبي صالح في قوله (
فإن له معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر .
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=16333عبد الرحمن بن الأسود قال : ثنا
محمد بن ربيعة قال : ثنا
أبو عميس عن
عبد الله بن مخارق عن أبيه ، عن
عبد الله في قوله (
معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر .
حدثني
عبد الرحيم البرقي قال : ثنا
ابن أبي مريم قال : ثنا
محمد بن جعفر وابن أبي حازم قالا ثنا
أبو حازم عن
النعمان بن أبي عياش عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري (
معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر .
[ ص: 394 ] قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر الذي حدثنا به
nindex.php?page=showalam&ids=15517أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا عمي
nindex.php?page=showalam&ids=16472عبد الله بن وهب قال : أخبرني
عمرو بن الحارث عن
دراج عن
ابن حجيرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3502049 " أتدرون فيم أنزلت هذه الآية ( فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده أنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين : تسعة وتسعون حية ، لكل حية سبعة رءوس ، ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة " .
وإن الله تبارك وتعالى اتبع ذلك بقوله : (
ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة ، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله : (
ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) معنى مفهوم ، لأن ذلك إن لم يكن تقدمه عذاب لهم قبل الآخرة ، حتى يكون الذي في الآخرة أشد منه ، بطل معنى قوله (
ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) ، فإذ كان ذلك كذلك ، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا ، أو في قبورهم قبل البعث ، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بينا ، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا ، فقد يجب أن يكون كل من أعرض عن ذكر الله من الكفار ، فإن معيشته فيها ضنك ، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى ، القائلين له المؤمنين في ذلك ، ما يدل على أن ذلك ليس كذلك ، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صح الوجه الثالث ، وهو أن ذلك في البرزخ .
وقوله (
ونحشره يوم القيامة أعمى ) اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الآية ، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به ، فقال بعضهم : ذلك عمى عن الحجة ، لا عمى عن البصر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن إسماعيل الأحمسي قال : ثنا
محمد بن عبيد قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، عن
إسماعيل بن أبي خالد عن
أبي صالح [ ص: 395 ] في قوله : (
ونحشره يوم القيامة أعمى ) قال : ليس له حجة .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله : (
ونحشره يوم القيامة أعمى ) قال : عن الحجة .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد مثله ، وقيل : يحشر أعمى البصر .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره ، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جل ثناؤه ، فعم ولم يخصص .
وقوله (
قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم في ذلك ، ما حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
عبد الرزاق عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد (
قال رب لم حشرتني أعمى ) لا حجة لي .
وقوله (
وقد كنت بصيرا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وقد كنت بصيرا بحجتي .
ذكر من قال ذلك : حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد (
وقد كنت بصيرا ) قال : عالما بحجتي .
وقال آخرون . بل معناه : وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد (
وقد كنت بصيرا ) في الدنيا .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد عن
قتادة قوله (
قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) قال : كان بعيد البصر ، قصير النظر ، أعمى عن الحق .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله عز شأنه وجل ثناؤه عم بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر ، ولم يخصص منه معنى دون
[ ص: 396 ] معنى ، فذلك على ما عمه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : قال رب لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء ، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله .
فإن قال قائل : وكيف قال هذا لربه (
لم حشرتني أعمى ) مع معاينته عظيم سلطانه ، أجهل في ذلك الموقف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء ، أم ما وجه ذلك ؟ قيل : إن ذلك منه مسألة لربه يعرفه الجرم الذي استحق به ذلك ، إذ كان قد جهله ، وظن أن لا جرم له ، استحق ذلك به منه ، فقال : رب لأي ذنب ولأي جرم حشرتني أعمى ، وقد كنت من قبل في الدنيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستحق منك من العقاب .
وقوله (
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ) يقول تعالى ذكره ، قال الله حينئذ للقائل له : (
لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) فعلت ذلك بك فحشرتك أعمى كما أتتك آياتي - وهي حججه وأدلته وبيانه الذي بينه في كتابه - فنسيتها : يقول : فتركتها وأعرضت عنها ، ولم تؤمن بها ، ولم تعمل . وعنى بقوله (
كذلك أتتك ) هكذا أتتك . وقوله : (
وكذلك اليوم تنسى ) يقول : فكما نسيت آياتنا في الدنيا ، فتركتها وأعرضت عنها ، فكذلك اليوم ننساك ، فنتركك في النار .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله (
وكذلك اليوم تنسى ) فقال بعضهم بمثل الذي قلنا في ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن إسماعيل الأحمسي قال ، ثنا
محمد بن عبيد قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري عن
إسماعيل بن أبي خالد عن
أبي صالح في قوله (
وكذلك اليوم تنسى ) قال : في النار .
حدثنا
الحسن قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله (
كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ) قال : فتركتها (
وكذلك اليوم تنسى ) وكذلك اليوم تترك في النار .
وروي عن
قتادة في ذلك ما حدثني
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد عن
قتادة (
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) قال : نسي من الخير ، ولم ينس من الشر . وهذا القول الذي قاله
قتادة قريب المعنى مما
[ ص: 397 ] قاله
أبو صالح ومجاهد لأن تركه إياهم في النار أعظم الشر لهم .