القول في
تأويل قوله تعالى : ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( 30 ) )
يقول تعالى ذكره : أولم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم فيروا بها ، ويعلموا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ، يقول : ليس فيهما ثقب ، بل كانتا ملتصقتين ، يقال منه : رتق فلان الفتق ، إذا شده ، فهو يرتقه رتقا ورتوقا ، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم : رتقاء ، ووحد الرتق ، وهو من صفة السماء والأرض ، وقد جاء بعد قوله ( كانتا ) لأنه مصدر ، مثل قول الزور والصوم والفطر .
وقوله ( ففتقناهما ) يقول : فصدعناهما وفرجناهما .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى
وصف الله السماوات والأرض بالرتق [ ص: 431 ] وكيف كان الرتق ، وبأي معنى فتق ؟ فقال بعضهم : عنى بذلك أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين ، ففصل الله بينهما بالهواء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية عن
علي عن
ابن عباس قوله (
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ) يقول : كانتا ملتصقتين .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله (
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) . . . الآية ، يقول : كانتا ملتصقتين ، فرفع السماء ووضع الأرض .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد بن سليمان قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله (
أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) كان
ابن عباس يقول : كانتا ملتزقتين ، ففتقهما الله .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد عن
قتادة (
أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) قال : كان
الحسن وقتادة يقولان : كانتا جميعا ، ففصل الله بينهما بهذا الهواء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن السماوات كانت مرتتقة طبقة ففتقها الله فجعلها سبع سماوات وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين
ذكر من قال : ذلك : حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قول الله تبارك وتعالى (
رتقا ففتقناهما ) من الأرض ست أرضين معها فتلك سبع أرضين معها ، ومن السماء ست سماوات معها ، فتلك سبع سماوات معها ، قال : ولم تكن الأرض والسماء متماستين .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
محمد بن ثور عن
معمر عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد (
رتقا ففتقناهما ) قال : فتقهن سبع سماوات ، بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهن تحت بعض .
[ ص: 432 ] حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد نحو حديث
محمد بن عمرو عن
أبي عاصم .
حدثنا
عبد الحميد بن بيان قال : أخبرنا
محمد بن يزيد عن
إسماعيل قال : سألت
أبا صالح عن قوله (
كانتا رتقا ففتقناهما ) قال : كانت الأرض رتقا والسماوات رتقا ، ففتق من السماء سبع سماوات ، ومن الأرض سبع أرضين .
حدثنا
موسى قال : ثنا
عمرو قال : ثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : كانت سماء واحدة ثم فتقها ، فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، فذلك حين يقول (
خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) يقول (
كانتا رتقا ففتقناهما ) .
وقال آخرون : بل عنى بذلك أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ، والأرض كذلك رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
هناد قال : ثنا
أبو الأحوص عن
سماك عن
عكرمة (
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) قال : كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات . قال : وهو قوله (
والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع ) .
حدثني
الحسين بن علي الصدائي قال : ثنا أبي ، عن
الفضيل بن مرزوق عن
عطية في قوله (
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) قال : كانت السماء رتقا لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر ، وفتق الأرض بالنبات ، وجعل من الماء كل شيء حي ، أفلا يؤمنون ؟
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) قال : كانت السماوات رتقا لا ينزل منها مطر ، وكانت الأرض رتقا لا يخرج منها نبات ، ففتقهما الله ، فأنزل مطر السماء ، وشق الأرض فأخرج نباتها ، وقرأ (
ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) .
وقال آخرون : إنما قيل ( ففتقناهما ) لأن الليل كان قبل النهار ، ففتق النهار .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 433 ] حدثنا
الحسن قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
الثوري عن أبيه ، عن
عكرمة عن
ابن عباس قال : خلق الليل قبل النهار ، ثم قال : كانتا رتقا ففتقناهما .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات ، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله : (
وجعلنا من الماء كل شيء حي ) على ذلك ، وأنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه .
فإن قال قائل : فإن كان ذلك كذلك ، فكيف قيل : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا ؟ قيل : إن ذلك مختلف فيه ، قد قال قوم : إنما ينزل من السماء السابعة ، وقال آخرون : من السماء الرابعة ، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا ، لم يكن في قوله (
أن السماوات والأرض ) دليل على خلاف ما قلنا ، لأنه لا يمتنع أن يقال السماوات ، والمراد منها واحدة فتجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وقميص أسمال .
فإن قال قائل : وكيف قيل إن السماوات والأرض كانتا ، فالسماوات جمع ، وحكم جمع الإناث أن يقال في قليله كن ، وفي كثيره كانت ؟ قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنهما صنفان ، فالسماوات نوع ، والأرض آخر ، وذلك نظير قول
الأسود بن يعفر :
إن المنية والحتوف كلاهما توفي المخارم يرقبان سوادي
فقال كلاهما ، وقد ذكر المنية والحتوف لما وصفت من أنه عنى النوعين ، وقد
[ ص: 434 ] أخبرت عن
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبي عبيدة معمر بن المثنى قال : أنشدني
غالب النفيلي للقطامي :
ألم يحزنك أن حبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا
فجعل حبال قيس وهي جمع ، وحبال تغلب وهي جمع اثنين .
وقوله (
وجعلنا من الماء كل شيء حي ) يقول تعالى ذكره : وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء .
كما حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
محمد بن ثور عن
معمر عن
قتادة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) قال :
كل شيء حي خلق من الماء .
فإن قال قائل : وكيف خص كل شيء حي بأنه جعل من الماء دون سائر الأشياء غيره ، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والأشجار ، وغير ذلك مما لا حياة له ، ولا يقال له حي ولا ميت ؟ قيل : لأنه لا شيء من ذلك إلا وله حياة وموت ، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الأرواح في أنه لا أرواح فيهن وأن في ذوات الأرواح أرواحا ، فلذلك قيل (
وجعلنا من الماء كل شيء حي ) .
وقوله ( أفلا يؤمنون ) يقول : أفلا يصدقون بذلك ، ويقرون بألوهية من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة .