القول في تأويل قوله تعالى : (
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( 15 )
وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد 16 ( 16 ) )
اختلف أهل التأويل في المعني بالهاء التي في قوله : (
أن لن ينصره الله ) .
[ ص: 580 ] فقال بعضهم : عنى بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فتأويله على قول بعض قائلي ذلك : من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله
محمدا في الدنيا والآخرة ، فليمدد بحبل ، وهو السبب إلى السماء : يعني سماء البيت ، وهو سقفه ، ثم ليقطع السبب بعد الاختناق به ، فلينظر هل يذهبن اختناقه ذلك ، وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ ، يقول : هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
نصر بن علي قال : ثني أبي ، قال : ثني
خالد بن قيس عن
قتادة : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ولا دينه ولا كتابه ، (
فليمدد بسبب ) يقول : بحبل إلى سماء البيت فليختنق به (
فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
محمد بن ثور عن
معمر عن
قتادة : (
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، (
فليمدد بسبب ) يقول : بحبل إلى سماء البيت ، ( ثم ليقطع ) يقول : ثم ليختنق ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .
حدثنا
الحسن قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال أخبرنا
معمر عن
قتادة بنحوه .
وقال آخرون ممن قال : الهاء في ينصره من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم السماء التي ذكرت في هذا الموضع ، هي السماء المعروفة .
قالوا : معنى الكلام ما حدثني به
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ) فقرأ حتى بلغ (
هل يذهبن كيده ما يغيظ ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه ومنه : فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه ، فإن أصله في السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله ، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه ، فكايد ذلك حتى قطع أصله عنه . (
فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) ما دخلهم من ذلك ، وغاظهم الله به من نصرة النبي
[ ص: 581 ] صلى الله عليه وسلم ، وما ينزل عليه . وقال آخرون ممن قال " الهاء " التي في قوله : ( ينصره ) من ذكر
محمد صلى الله عليه وسلم; معنى النصر هاهنا الرزق ، فعلى قول هؤلاء تأويل الكلام : من كان يظن أن لن يرزق الله
محمدا في الدنيا ، ولن يعطيه . وذكروا سماعا من العرب : من ينصرني نصره الله ، بمعنى : من يعطيني أعطاه الله ، وحكوا أيضا سماعا منهم : نصر المطر أرض كذا : إذا جادها وأحياها .
واستشهد لذلك ببيت
الفقعسي :
وإنك لا تعطي امرأ فوق حظه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره
ذكر من قال ذلك :
حدثني
أبو كريب قال : ثنا
ابن عطية قال : ثنا
إسرائيل عن
أبي إسحاق عن
التميمي قال : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس : أرأيت قوله (
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا ، فليربط حبلا في سقف ثم ليختنق به حتى يموت .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
حكام عن
عنبسة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق الهمداني عن
التميمي قال : سألت
ابن عباس عن قوله : (
من كان يظن أن لن ينصره الله ) قال : أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، (
فليمدد بسبب إلى السماء ) والسبب : الحبل ، والسماء : سقف البيت ، فليعلق حبلا في سماء البيت ثم ليختنق (
فلينظر هل يذهبن كيده ) هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
حكام عن
عمرو بن مطرف عن
أبي [ ص: 582 ] إسحاق عن رجل من
بني تميم ، عن
ابن عباس مثله .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار قال : ثنا
عبد الرحمن قال : ثنا
سفيان عن
أبي إسحاق عن
التميمي عن
ابن عباس : (
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ) قال : سماء البيت .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى قال : ثنا
أبو داود قال : ثنا
شعبة عن
أبي إسحاق قال : سمعت
التميمي يقول : سألت
ابن عباس فذكر مثله .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : (
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ) . . . إلى قوله : ( ما يغيظ ) قال : السماء التي أمر الله أن يمد إليها بسبب سقف البيت أمر أن يمد إليه بحبل فيختنق به ، قال : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله !
وقال آخرون : الهاء في ينصره من ذكر " من " . وقالوا : معنى الكلام : من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، أنه لا يرزق !
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قول الله (
أن لن ينصره الله ) قال : يرزقه الله . (
فليمدد بسبب ) قال : بحبل ( إلى السماء ) سماء ما فوقك ( ثم ليقطع ) ليختنق ، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد في قوله (
من كان يظن أن لن ينصره الله ) يرزقه الله (
فليمدد بسبب إلى السماء ) قال : بحبل إلى السماء .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني عن
ابن عباس قال : ( إلى السماء ) إلى سماء البيت . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : وقال
مجاهد : ( ثم ليقطع ) قال : ليختنق ، وذلك كيده ( ما يغيظ ) قال : ذلك خنقه أن لا يرزقه الله .
[ ص: 583 ] حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد بن سليمان قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله (
فليمدد بسبب ) يعني : بحبل ( إلى السماء ) يعني سماء البيت .
حدثني
يعقوب قال : ثنا
ابن عطية قال : أخبرنا
أبو رجاء قال : سئل
عكرمة عن قوله : (
فليمدد بسبب إلى السماء ) قال : سماء البيت . ( ثم ليقطع ) قال : يختنق .
وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال : الهاء من ذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالى ذكره ، ذكر قوما يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه ، وأنهم يرتدون عن دينهم لشدة تصيبهم فيها ، ثم أتبع ذلك هذه الآية ، فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين ، أو على شكهم فيه نفاقهم ، استبطاء منهم السعة في العيش ، أو السبوغ في الرزق . وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم ، فمعنى الكلام إذن ، إذ كان كذلك : من كان يحسب أن لن يرزق الله
محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا ، فيوسع عليهم من فضله فيها ، ويرزقهم في الآخرة من سنى عطاياه وكرامته ، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم ، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه : إما سقف بيت ، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه ، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله ، فاستعجل انكشاف ذلك عنه ، فلينظر هل يذهبن كيده اختناقه كذلك ما يغيظ ، فإن لم يذهب ذلك غيظه ; حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه ، فكذلك استعجاله نصر الله
محمدا ودينه لن يؤخر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ، ولا يعجل قبل حينه ، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في
أسد وغطفان ، تباطئوا عن الإسلام ، وقالوا : نخاف أن لا ينصر
محمد صلى الله عليه وسلم ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من
اليهود فلا يميروننا ولا يرووننا ، فقال الله تبارك وتعالى لهم : من استعجل من الله نصر
محمد ، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه ، هل هو مذهب غيظه ؟ فكذلك استعجاله من الله نصر
محمد غير مقدم نصره قبل حينه .
[ ص: 584 ] واختلف أهل العربية في " ما " التي في قوله : ( ما يغيظ ) فقال بعض نحويي
البصرة هي بمعنى الذي ، وقال : معنى الكلام : هل يذهبن كيده الذي يغيظه ، قال : وحذفت الهاء لأنها صلة الذي ، لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الحذف أخف . وقال غيره : بل هو مصدر لا حاجة به إلى الهاء ، هل يذهبن كيده غيظه .
وقوله : (
وكذلك أنزلناه آيات بينات ) يقول تعالى ذكره : وكما بينت لكم حججي على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه ، فأوضحتها أيها الناس ، كذلك أنزلنا إلى نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بينات ، يعني دلالات واضحات ، يهدين من أراد الله هدايته إلى الحق (
وأن الله يهدي من يريد ) يقول جل ثناؤه : ولأن الله يوفق للصواب ولسبيل الحق من أراد ، أنزل هذا القرآن آيات بينات ، ف " أن " في موضع نصب .