القول في تأويل قوله تعالى : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا )
قال
أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (
لا تقولوا راعنا ) . فقال بعضهم : تأويله : لا تقولوا خلافا .
ذكر من قال ذلك :
1720 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار قال : حدثنا
مؤمل قال : حدثنا
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
عطاء في قوله : (
لا تقولوا راعنا ) ، قال : لا تقولوا خلافا .
1721 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا خلافا .
1722 - وحدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
1723 - حدثنا
أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا
أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا
سفيان ، عن رجل عن
مجاهد مثله .
1724 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو نعيم قال : حدثنا
سفيان ، عن
مجاهد مثله .
[ ص: 460 ]
وقال آخرون : تأويله : أرعنا سمعك . أي : اسمع منا ونسمع منك .
ذكر من قال ذلك :
1725 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة قال : حدثني
ابن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قوله : ( راعنا ) ، أي : أرعنا سمعك .
1726 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله جل وعز : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك .
1727 - وحدثت عن
الحسين بن الفرج قال ، سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد بن سليمان قال ، سمعت
الضحاك يقول في قوله : ( راعنا ) ، قال : كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك .
ثم اختلف أهل التأويل في
السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا : "راعنا" . فقال بعضهم : هي كلمة كانت
اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة ، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
1728 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) قول كانت تقوله
اليهود استهزاء ، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم .
1729 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد الزبيري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16796فضيل بن مرزوق ، عن
عطية : (
لا تقولوا راعنا ) ، قال : كان أناس من
اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين : فكره الله لهم ما قالت
اليهود فقال : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، كما قالت
اليهود والنصارى .
[ ص: 461 ]
1730 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : (
لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، قال : كانوا يقولون : راعنا سمعك! فكان
اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين ، فقال الله : (
لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا )
. 1731 - وحدثت عن
المنجاب قال : حدثنا
بشر بن عمارة ، عن
أبي روق ، عن
الضحاك ، عن
ابن عباس في قوله : (
لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك! وإنما "راعنا" كقولك ، عاطنا .
1732 - وحدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) قال : "راعنا" القول الذي قاله القوم ، قالوا : (
سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) [ سورة النساء : 46 ] قال : "قال : هذا الراعن" - والراعن : الخطاء - قال : فقال للمؤمنين : لا تقولوا خطاء ، كما قال القوم ، وقولوا : انظرنا واسمعوا . قال : كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه ، ويسمع منهم ، ويسألونه ويجيبهم .
وقال آخرون : بل هي كلمة كانت
الأنصار في الجاهلية تقولها ، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
1733 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني
هشيم قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، عن
عطاء في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانت لغة في
الأنصار في الجاهلية ، فنزلت هذه الآية : (
لا تقولوا راعنا ) ولكن قولوا انظرنا ) إلى آخر الآية .
[ ص: 462 ]
1734 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
هشيم ، عن
عبد الملك ، عن
عطاء قال : (
لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانت لغة في
الأنصار .
1735 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
جرير ، عن
عبد الملك ، عن
عطاء مثله .
1736 - وحدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق ، عن
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه : أرعني سمعك! فنهوا عن ذلك .
1737 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : "راعنا" : قول الساخر . فنهاهم أن يسخروا من قول
محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : بل كان ذلك كلام يهودي من
اليهود بعينه ، يقال له :
رفاعة بن زيد ، كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه السب له ، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه ، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
1738 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، كان رجل من
اليهود - من قبيلة من
اليهود يقال لهم
بنو قينقاع - كان يدعى
رفاعة بن زيد بن السائب - قال
أبو جعفر : هذا خطأ ، إنما هو ابن التابوت ، ليس
ابن السائب - كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك ، واسمع غير مسمع ، فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا ، فكان
[ ص: 463 ] ناس منهم يقولون : "اسمع غير مسمع" ، كقولك اسمع غير صاغر ، وهي التي في النساء (
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) [ سورة النساء : 46 ] ، يقول : إنما يريد بقوله طعنا في الدين . ثم تقدم إلى المؤمنين فقال : "لا تقولوا راعنا" .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في نهي الله - جل ثناؤه - المؤمنين أن يقولوا لنبيه : "راعنا" أن يقال : إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
1739 -
nindex.php?page=hadith&LINKID=810059 "لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا : الحبلة" .
1740 -
nindex.php?page=hadith&LINKID=811253و"لا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي" .
وما أشبه ذلك ، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب ، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما ، واختيار الأخرى عليها في المخاطبات .
فإن قال لنا قائل : فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم في "العنب" أن يقال له : "كرم" ، وفي "العبد" أن يقال له : "عبد" ، فما المعنى الذي في قوله : ( راعنا ) حينئذ ، الذي من أجله كان النهي من الله - جل ثناؤه - للمؤمنين
[ ص: 464 ] عن أن يقولوه ، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله : ( انظرنا ) ؟
قيل : الذي فيه من ذلك ، نظير الذي في قول القائل : "الكرم" للعنب ، و"العبد" للمملوك . وذلك أن قول القائل : "عبدي" لجميع عباد الله ، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى العبودية - إلى غير الله ، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره ، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل ، فيقال : "فتاي" . وكذلك وجه نهيه في "العنب" أن يقال : "كرم" خوفا من توهم وصفه بالكرم ، وإن كانت مسكنة ، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد؛ فكره أن يتصف بذلك العنب ، فكذلك نهى الله - عز وجل - المؤمنين أن يقولوا : "راعنا"؛ لما كان قول القائل : "راعنا" محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك ، وارقبنا ونرقبك . من قول العرب بعضهم لبعض : "رعاك الله" : بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى : أرعنا سمعك ، من قولهم : "أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رعاء أو مراعاة" ، بمعنى : فرغته لسماع كلامه . كما قال
الأعشى ميمون بن قيس :
يرعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
يعني بقوله : "يرعي" يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك .
وكان الله - جل ثناؤه - قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ، حتى نهاهم - جل ذكره - فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم . فتقدم
[ ص: 465 ] إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء ، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها ، ومن المعاني أرقها؛ فكان من ذلك قولهم : ( راعنا ) لما فيه من احتمال معنى : ارعنا نرعاك ، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين ، كما يقول القائل : "عاطنا ، وحادثنا ، وجالسنا" ، بمعنى : افعل بنا ونفعل بك - ومعنى : أرعنا سمعك ، حتى نفهمك وتفهم عنا ، فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك ، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم ، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له ، ولا بالفظاظة والغلظة ، تشبها منهم
باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بقولهم له : (
اسمع غير مسمع وراعنا ) .
يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله : (
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) ، فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه ، مما يسر
اليهود والمشركين .
فأما التأويل الذي حكي عن
مجاهد في قوله : ( راعنا ) أنه بمعنى : خلافا ، فمما لا يعقل في كلام العرب؛ لأن "راعيت" في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين : أحدهما بمعنى "فاعلت" من "الرعية" وهي الرقبة والكلاءة . والآخر بمعنى إفراغ السمع ، بمعنى "أرعيته سمعي" . وأما "راعيت" بمعنى "خالفت" ، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب ، إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين ، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد ، فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء - معنى مفهوم حينئذ .
وأما القول الآخر الذي حكي عن
عطية ومن حكي ذلك عنه : أن قوله : ( راعنا )
[ ص: 466 ] كانت كلمة
لليهود بمعنى السب والسخرية ، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم ، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين : أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم . ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن
قتادة ، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب ، وافقت كلمة من كلام
اليهود بغير اللسان العربي ، هي عند
اليهود سب ، وهي عند العرب : أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني ، فعلم الله - جل ثناؤه - معنى
اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب ، فنهى الله - عز وجل - المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم ، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه ، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به . وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك ، من الوجه الذي تقوم به الحجة . وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا ، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره .
وقد حكي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري أنه كان يقرأه : ( لا تقولوا راعنا ) بالتنوين ، بمعنى : لا تقولوا قولا "راعنا" ، من "الرعونة" وهي الحمق والجهل . وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة ، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين ، وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين .
ومن نون "راعنا" نونه بقوله : ( لا تقولوا ) ، لأنه حينئذ عامل فيه ، ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه ، لأنه أمر محكي؛ لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : ( راعنا ) ، بمعنى مسألته : إما أن يرعيهم سمعه ، وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم : لا تقولوا في مسألتكم إياه "راعنا" . فتكون الدلالة على معنى الأمر في"راعنا" حينئذ سقوط الياء التي كانت
[ ص: 467 ] تكون في "يراعيه" ويدل عليها - أعني على"الياء" الساقطة - كسرة "العين" من "راعنا" .
وقد ذكر أن قراءة
ابن مسعود : ( لا تقولوا راعونا ) ، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم ، فإن كان ذلك من قراءته صحيحا ، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا ، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره . ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار .