القول في تأويل قوله تعالى : (
هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ( 19 )
يصهر به ما في بطونهم والجلود ( 20 )
ولهم مقامع من حديد ( 21 )
كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ( 22 ) )
اختلف أهل التأويل في المعني بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله ، فقال بعضهم : أحد الفريقين : أهل الإيمان ، والفريق الآخر : عبدة الأوثان من مشركي
قريش الذين تبارزوا يوم
بدر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يعقوب قال : ثنا
هشيم قال : أخبرنا
[ ص: 588 ] أبو هاشم عن
أبي مجلز عن
قيس بن عبادة قال : سمعت
أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) نزلت في الذين بارزوا يوم
بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة
nindex.php?page=showalam&ids=15497والوليد بن عتبة قال : وقال
على : إني لأول ، أو من أول من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى .
حدثنا
علي بن سهل قال : ثنا
مؤمل قال : ثنا
سفيان عن
أبي هاشم عن
أبي مجلز عن
قيس بن عباد قال : سمعت
أبا ذر يقسم بالله قسما : لنزلت هذه الآية في ستة من
قريش حمزة بن عبد المطلب nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم
وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة nindex.php?page=showalam&ids=15497والوليد بن عتبة (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) . . . إلى آخر الآية (
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . . إلى آخر الآية .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
عبد الرحمن قال : ثنا
سفيان عن
أبي هاشم عن
أبي مجلز عن
قيس بن عباد قال : سمعت
أبا ذر يقسم ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
محمد بن محبب قال : ثنا
سفيان عن
nindex.php?page=showalam&ids=17152منصور بن المعتمر عن
هلال بن يساف قال : نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم
بدر (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل قال : ثني
محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار قال : نزلت هؤلاء الآيات : (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) في الذين تبارزوا يوم
بدر :
حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة nindex.php?page=showalam&ids=15497والوليد بن عتبة . إلى قوله (
وهدوا إلى صراط الحميد ) .
قال : ثنا
جرير عن
منصور عن
أبي هاشم عن
أبي مجلز عن
قيس بن عباد قال : والله لأنزلت هذه الآية : (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم
بدر :
حمزة وعلي وعبيدة رحمة الله عليهم
وشيبة وعتبة nindex.php?page=showalam&ids=15497والوليد بن عتبة .
وقال آخرون : ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان ، بل الفريق الآخر أهل
[ ص: 589 ] الكتاب .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : هم أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله ، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا . وكان ذلك خصومتهم في ربهم .
وقال آخرون منهم : بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أي ملة كانوا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج قال : ثنا
أبو تميلة عن
أبي حمزة عن
جابر عن
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح وأبي قزعة عن
الحسين قال : هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم .
قال ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد : مثل الكافر والمؤمن . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : خصومتهم التي اختصموا في ربهم ، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين ، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم .
حدثنا
أبو كريب قال : ثنا
أبو بكر بن عياش قال : كان
عاصم والكلبي يقولان جميعا في (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل ، قال : جعل الشرك ملة .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله : (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث .
وقال آخرون : الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية : الجنة والنار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثنا
أبو تميلة عن
أبي حمزة عن
جابر عن
عكرمة في (
هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة :
[ ص: 590 ] خلقني الله لرحمته ، فقد قص الله عليك من خبرهما ما تسمع .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : عنى بالخصمين جميع الكفار من أي أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين ، وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه : أحدهما أهل طاعة له بالسجود له ، والآخر : أهل معصية له ، قد حق عليه العذاب ، فقال : (
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ) ثم قال : (
وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما ، فقال : (
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) وقال الله (
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ) ; فكان بينا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما روي عن
أبي ذر إن ذلك نزل في الذين بارزوا يوم
بدر ؟ قيل : ذلك إن شاء الله كما روي عنه ، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب ، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب ، وهذه من تلك ، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله ، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له ، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم ، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم .
فتأويل الكلام : هذان خصمان اختصموا في دين ربهم ، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه .
وقوله : (
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) يقول تعالى ذكره : فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار .
كما حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد : (
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) قال : الكافر قطعت له ثياب من نار ، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
يعقوب عن
جعفر عن
سعيد في قوله :
[ ص: 591 ] (
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) قال : ثياب من نحاس ، وليس شيء من الآنية أحمى وأشد حرا منه .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد قال : الكفار قطعت لهم ثياب من نار ، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار . وقوله : (
يصب من فوق رءوسهم الحميم ) يقول : يصب على رءوسهم ماء مغلي .
كما حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى قال : ثنا
إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال : ثنا
ابن المبارك عن
سعيد بن زيد عن
أبي السمح عن
ابن جحيرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=810832إن الحميم ليصب على رءوسهم ، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهي الصهر ، ثم يعاد كما كان " .
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى قال : ثنا
يعمر بن بشر قال : ثنا
ابن المبارك قال : أخبرنا
سعيد بن زيد عن
أبي السمح عن
ابن جحيرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=810833فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه " .
وكان بعضهم يزعم أن قوله (
ولهم مقامع من حديد ) من المؤخر الذي معناه التقديم ، ويقول : وجه الكلام : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، ولهم مقامع من حديد يصب من فوق رءوسهم الحميم ويقول : إنما وجب أن يكون ذلك كذلك ، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه ، ثم يصب فيه الحميم الذي انتهى حره فيقطع بطنه . والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا يدل على خلاف ما قال هذا القائل ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صب على رءوسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، ولو كانت المقامع قد تثقب رءوسهم قبل صب الحميم عليها ، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم :
[ ص: 592 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=810834إن الحميم ينفذ الجمجمة " معنى : ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل .
وقوله : (
يصهر به ما في بطونهم والجلود ) يقول : يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رءوسهم ما في بطونهم من الشحوم ، وتشوى جلودهم منه فتتساقط ، والصهر : هو الإذابة ، يقال منه : صهرت الألية بالنار : إذا أذبتها أصهرها صهرا; ومنه قول الشاعر :
تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس ولا ينصهر
ومنه قول الراجز :
شك السفافيد الشواء المصطهر
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله : ( يصهر به ) قال : يذاب إذابة .
حدثنا
القاسم قال : ثنا
الحسين قال : ثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد مثله . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ( يصهر به ) قال : ما قطع لهم من العذاب .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور عن
معمر عن
قتادة : (
يصهر به ما في بطونهم ) قال : يذاب به ما في بطونهم .
حدثنا
الحسن قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر عن
قتادة مثله .
[ ص: 593 ] حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : (
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) . . . إلى قوله : (
يصهر به ما في بطونهم والجلود ) يقول : يسقون ما إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
يعقوب عن
جعفر وهارون بن عنترة عن
سعيد بن جبير قال : قال
هارون : إذا عام أهل النار ، وقال
جعفر : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فيأكلون منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارا مر بهم يعرفهم ، يعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش ، فيستغيثوا ، فيغاثوا بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود و (
يصهر به ما في بطونهم ) يعني أمعاءهم ، وتساقط جلودهم ، ثم يضربون بمقامع من حديد ، فيسقط كل عضو على حاله ، يدعون بالويل والثبور . وقوله : (
ولهم مقامع من حديد ) تضرب رءوسهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار حتى ترجعهم إليها . وقوله : (
كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) يقول : كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغم والكرب ردوا إليها .
كما حدثنا
مجاهد بن موسى قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15637جعفر بن عون قال : أخبرنا
الأعمش عن
nindex.php?page=showalam&ids=12062أبي ظبيان قال : النار سوداء مظلمة ، لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : (
كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها ، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع ، ويقولون لهم إذا ضربوهم بالمقامع : (
ذوقوا عذاب الحريق ) . وعنى بقوله : (
وذوقوا عذاب الحريق ) ويقال لهم ذوقوا عذاب النار ، وقيل عذاب الحريق والمعنى : المحرق ، كما قيل : العذاب الأليم ، بمعنى المؤلم .