القول في تأويل
قوله تعالى : ( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( 13 )
ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( 14 ) )
يعني تعالى ذكره بقوله : (
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) ثم جعلنا الإنسان الذي جعلناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين ، وهو حيث استقرت فيه نطفة الرجل من رحم المرأة ، ووصفه بأنه مكين; لأنه مكن لذلك ، وهيأ له ليستقر فيه إلى بلوغ أمره الذي جعله له قرارا . وقوله : (
ثم خلقنا النطفة علقة ) يقول : ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة ، وهي القطعة من الدم ، (
فخلقنا العلقة مضغة ) يقول : فجعلنا ذلك الدم مضغة ، وهي القطعة من اللحم .
وقوله : (
فخلقنا المضغة عظاما ) يقول : فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما . وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة
قراء الحجاز والعراق سوى
عاصم : (
فخلقنا المضغة عظاما ) على الجمع ، وكان
عاصم وعبد الله يقرءان ذلك : ( عظما ) في الحرفين على التوحيد جميعا .
[ ص: 17 ] والقراءة التي نختار في ذلك الجمع ; لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقوله : (
فكسونا العظام لحما ) يقول : فألبسنا العظام لحما . وقد ذكر أن ذلك في قراءة
عبد الله : ( ثم خلقنا المضغة عظما ) وعصبا ، فكسوناه لحما . وقوله : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) يقول : ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر . وهذه الهاء التي في : ( أنشأناه ) عائدة على الإنسان في قوله : (
ولقد خلقنا الإنسان ) قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة ، جعل ذلك كله كالشيء الواحد . فقيل : ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) فقال بعضهم : إنشاؤه إياه خلقا آخر : نفخه الروح فيه ; فيصير حينئذ إنسانا ، وكان قبل ذلك صورة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
هشيم ، قال : أخبرنا
حجاج ، عن
عطاء ، عن
ابن عباس في قوله : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
هشيم عن
الحجاج بن أرطأة ، عن
عطاء ، عن
ابن عباس ، بمثله .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : قال
ابن عباس : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : الروح .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
سفيان ، عن
عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن
عكرمة ، في قوله : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .
حدثنا
ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
سلمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند ، عن
الشعبي : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .
قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
سفيان ، عن
منصور ، عن
مجاهد ، بمثله .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
أبي جعفر ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية ، في قوله : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح ، فهو الخلق الآخر الذي ذكر .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول ، في قوله : (
ثم أنشأناه خلقا ) يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله :
[ ص: 18 ] (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : الروح الذي جعله فيه . وقال آخرون : إنشاؤه خلقا آخر ، تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة في الطفولة والكهولة ، والاغتذاء ، ونبات الشعر والسن ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : (
ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) يقول : خرج من بطن أمه بعدما خلق ، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل ، ثم كان من خلقه أن دل على ثدي أمه ، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن فطم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : يقول بعضهم : هو نبات الشعر ، وبعضهم يقول : هو نفخ الروح .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، مثله .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : يقال الخلق الآخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره .
وقال آخرون : بل عنى بإنشائه خلقا آخر : سوى شبابه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : حين استوى شبابه .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : قال
مجاهد : حين استوى به الشباب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بذلك نفخ الروح فيه ، وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا ، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها ، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه ، يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية ، كما تحول أبوه
آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا ، وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه .
وقوله : (
فتبارك الله أحسن الخالقين ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال
[ ص: 19 ] بعضهم : معناه فتبارك الله أحسن الصانعين .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
حكام ، عن
عنبسة ، عن
ليث ، عن
مجاهد : (
فتبارك الله أحسن الخالقين ) قال : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين .
وقال آخرون : إنما قيل : (
فتبارك الله أحسن الخالقين ) لأن
عيسى ابن مريم كان يخلق ، فأخبر جل ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، في قوله : (
فتبارك الله أحسن الخالقين ) قال :
عيسى ابن مريم يخلق .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول
مجاهد ; لأن
العرب تسمي كل صانع خالقا ، ومنه قول
زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
ويروى :
ولأنت تخلق ما فريت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري