القول في
تأويل قوله تعالى : ( أو ننسها )
قال
أبو جعفر : اختلفت القرأة في قوله ذلك؛ فقرأها
أهل المدينة والكوفة : ( أو ننسها ) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل .
[ ص: 474 ]
أحدهما : أن يكون تأويله : ما ننسخ يا
محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها . وقد ذكر أنها في مصحف
عبد الله : ( ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها ) ، فذلك تأويل : "النسيان" . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1751 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها ، ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ، ثم تنسى وترفع .
1752 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : (
ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال : كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء ، وينسخ ما شاء .
1753 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قال : كان
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير يقول : ( ننسها ) ، نرفعها من عندكم .
1754 - حدثنا
سوار بن عبد الله قال : حدثنا
خالد بن الحارث قال : حدثنا
عوف ، عن
الحسن أنه قال في قوله : ( أو ننسها ) ، قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ، ثم نسيه .
وكذلك كان
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص يتأول الآية ، إلا أنه كان يقرأها : ( أو تنسها ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه عنى أو تنسها أنت يا
محمد ذكر الأخبار بذلك :
1755 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
يعلى [ ص: 475 ] بن عطاء ، عن
القاسم [ بن ربيعة ] قال ، سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص يقول : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) ، قلت له : فإن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب يقرأها : ( أو تنسها ) ، قال : فقال
سعد : إن القرآن لم ينزل على
المسيب ولا على آل
المسيب ! قال الله : (
سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] (
واذكر ربك إذا نسيت ) [ سورة الكهف : 24 ] .
1756 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
هشيم قال : حدثنا
يعلى بن عطاء قال : حدثنا
القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال ، سمعت
ابن أبي وقاص يذكر نحوه .
1757 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى nindex.php?page=showalam&ids=11790وآدم العسقلاني قالا جميعا ، عن
شعبة ، عن
يعلى بن عطاء قال ، سمعت
القاسم بن ربيعة الثقفي يقول : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=37لسعد بن أبي وقاص : إني سمعت
ابن المسيب يقرأ : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) فقال
سعد : إن الله لم ينزل القرآن على
المسيب ولا على ابنه! إنما هي : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) يا
محمد . ثم قرأ : (
سنقرئك فلا تنسى ) و (
واذكر ربك إذا نسيت ) .
1758 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن
[ ص: 476 ] أبيه ، عن
الربيع في قوله : (
ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، يقول : "ننسها" : نرفعها . وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها .
والوجه الآخر منهما ، أن يكون بمعنى "الترك" ، من قول الله جل ثناؤه : (
نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] ، يعني به : تركوا الله فتركهم . فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل : ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها ، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها . وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1759 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله بن صالح قال : حدثني
معاوية ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس في قوله : ( أو ننسها ) ، يقول : أو نتركها لا نبدلها .
1760 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قوله : ( أو ننسها ) ، نتركها لا ننسخها .
1761 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
جويبر ، عن
الضحاك في قوله : (
ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال : الناسخ والمنسوخ .
قال
أبو جعفر : وكان
عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما : -
1762 - حدثني به
nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : ( ننسها ) ، نمحها .
وقرأ ذلك آخرون : ( أو ننسأها ) بفتح النون وهمزة بعد السين ، بمعنى نؤخرها ، من قولك : "نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأ ونساء" ، إذا أخرته ، وهو من قولهم : "بعته
[ ص: 477 ] بنساء ، يعني بتأخير ، ومن ذلك قول
طرفة بن العبد :
لعمرك إن الموت ما أنسأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد
يعني بقوله : "أنسأ" ، أخر .
وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين ، وتأوله كذلك جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1763 - حدثنا
أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
عبد الملك ، عن
عطاء في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) ، قال : نؤخرها .
1764 - حدثنا
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى قال ، سمعت
ابن أبي نجيح يقول في قول الله : ( أو ننسأها ) ، قال : نرجئها .
1765 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : ( أو ننسأها ) ، نرجئها ونؤخرها .
1766 - حدثنا
أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا
أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا
فضيل ، عن
عطية : ( أو ننسأها ) ، قال : نؤخرها فلا ننسخها .
1767 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال ، أخبرني
عبد الله بن كثير ، عن
عبيد الأزدي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير ( أو ننسأها ) ، إرجاؤها وتأخيرها .
هكذا حدثنا
القاسم ، عن
عبد الله بن كثير ، "عن
عبيد الأزدي " ، وإنما هو عن "
علي الأزدي " .
1768 - حدثني
أحمد بن يوسف قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12074القاسم بن سلام قال : حدثنا
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
عبد الله بن كثير ، عن
علي الأزدي ، عن
عبيد [ ص: 478 ] بن عمير أنه قرأها : ( ننسأها ) .
قال
أبو جعفر : فتأويل من قرأ ذلك كذلك : ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا
محمد ، فنبطل حكمها ونثبت خطها ، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها ، نأت بخير منها أو مثلها .
وقد قرأ بعضهم ذلك : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ : ( أو ننسها ) ، إلا أن معنى ( أو تنسها ) ، أنت يا
محمد .
وقد قرأ بعضهم : ( ما ننسخ من آية ) ، بضم النون وكسر السين ، بمعنى : ما ننسخك يا
محمد نحن من آية - من "أنسختك فأنا أنسخك" . وذلك خطأ من القراءة عندنا ، لخروجه عما جاءت به الحجة من القرأة بالنقل المستفيض . وكذلك قراءة من قرأ ( تنسها ) أو ( تنسها ) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة .
وأولى القراءات في قوله : ( أو ننسها ) بالصواب ، من قرأ : ( أو ننسها ) بمعنى : نتركها؛ لأن الله - جل ثناؤه - أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه مهما بدل حكما أو غيره ، أو لم يبدله ولم يغيره ، فهو آتيه بخير منه أو بمثله؛ فالذي هو أولى بالآية ، إذ كان ذلك معناها ، أن يكون - إذ قدم الخبر
[ ص: 479 ] عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع ، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير ، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله : ( ما ننسخ من آية ) . قوله : أو نترك نسخها ، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس ، مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت ، فهو يشتمل على معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك ، ومعنى "النساء" الذي هو بمعنى التأخير؛ إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك .
وقد أنكر قوم قراءة من قرأ : ( أو تنسها ) ، إذا عني به النسيان ، وقالوا : غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ ، إلا أن يكون نسي منه شيئا ، ثم ذكره . قالوا : وبعد ، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرأوه وحفظوه من أصحابه ، بجائز على جميعهم أن ينسوه . قالوا : وفي قول الله جل ثناؤه : (
ولإن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) [ الإسراء : 86 ] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم .
قال
أبو جعفر : وهذا قول يشهد على بطوله وفساده ، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا .
1769 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : حدثنا
أنس بن مالك : أن أولئك السبعين من
الأنصار الذين قتلوا
ببئر معونة ، قرأنا بهم وفيهم كتابا : "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ، ثم إن ذلك رفع .
[ ص: 480 ]
1770 - والذي ذكرنا عن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرأون : "لو أن لابن
آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن
آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" . ثم رفع .
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب .
وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ، ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه ، فإذ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين ، فغير جائز لقائل أن يقول : ذلك غير جائز .
وأما قوله : (
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ، فإنه - جل ثناؤه - لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه ، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه ، فلم يذهب به والحمد لله ، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه ، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه . وقد قال الله تعالى ذكره : (
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) [ الأعلى : 6 - 7 ] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء ، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله .
فأما نحن ، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى ، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله .