القول في تأويل
قوله تعالى : ( فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ( 110 )
إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ( 111 ) )
[ ص: 80 ] يقول تعالى ذكره : فاتخذتم أيها القائلون لربكم (
ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ) في الدنيا ، القائلين فيها : (
ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ) سخريا . والهاء والميم في قوله : (
فاتخذتموهم ) من ذكر الفريق .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( سخريا ) فقرأه بعض
قراء الحجاز وبعض
أهل البصرة والكوفة (
فاتخذتموهم سخريا ) بكسر السين ، ويتأولون في كسرها أن معنى ذلك الهزء ، ويقولون : إنها إذا ضمت فمعنى الكلمة : السخرة والاستعباد . فمعنى الكلام على مذهب هؤلاء : فاتخذتم أهل الإيمان بي في الدنيا هزؤا ولعبا ، تهزءون بهم ، حتى أنسوكم ذكري . وقرأ ذلك عامة
قراء المدينة والكوفة : " فاتخذتموهم سخريا " بضم السين ، وقالوا : معنى الكلمة في الضم والكسر واحد . وحكى بعضهم عن
العرب سماعا لجي ولجي ، ودري ، ودري ، منسوب إلى الدر ، وكذلك كرسي وكرسي ; وقالوا ذلك من قيلهم كذلك ، نظير قولهم في جمع العصا : العصي بكسر العين ، والعصي بضمها ; قالوا : وإنما اخترنا الضم في السخري ; لأنه أفصح اللغتين .
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ ذلك فمصيب ، وليس يعرف من فرق بين معنى ذلك إذا كسرت السين وإذا ضمت ; لما ذكرت من الرواية عمن سمع من
العرب ما حكيت عنه .
ذكر الرواية به عن بعض من فرق في ذلك بين معناه مكسورة سينه ومضمومة .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد (
فاتخذتموهم سخريا ) قال : هما مختلفتان : سخريا ، وسخريا ، يقول الله : (
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) قال : هذا سخريا : يسخرونهم ، والآخرون : الذين يستهزئون بهم هم سخريا ، فتلك سخريا يسخرونهم عندك ، فسخرك رفعك فوقه ، والآخرون : استهزءوا بأهل الإسلام هي : سخريا يسخرون منهم . فهما مختلفتان . وقرأ قول الله : (
وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) وقال : يسخرون منهم كما سخر
قوم نوح بنوح ، اتخذوهم سخريا : اتخذوهم هزؤا ، لم يزالوا يستهزئون بهم .
[ ص: 81 ] وقوله : (
حتى أنسوكم ذكري ) يقول : لم يزل استهزاؤكم بهم ، أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري ، فألهاكم عنه (
وكنتم منهم تضحكون ) .
كما حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
حتى أنسوكم ذكري ) قال : أنسى هؤلاء الله استهزاؤهم بهم ، وضحكهم بهم ، وقرأ : (
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) حتى بلغ : (
إن هؤلاء لضالون ) . وقوله : (
إني جزيتهم اليوم بما صبروا ) يقول تعالى ذكره : إني أيها المشركون بالله المخلدون في النار ، جزيت الذين اتخذتموهم في الدنيا سخريا من أهل الإيمان بي ، وكنتم منهم تضحكون اليوم ، بما صبروا على ما كانوا يلقون بينكم من أذى سخريتكم وضحككم منهم في الدنيا (
أنهم هم الفائزون ) .
اختلفت القراء في قراءة : " إنهم " فقرأته عامة
قراء أهل المدينة والبصرة ، وبعض
أهل الكوفة : " أنهم " بفتح الألف من " أنهم " بمعنى : جزيتهم هذا ، فأن في قراءة هؤلاء في موضع نصب ، بوقوع قوله جزيتهم عليها ; لأن معنى الكلام عندهم : إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة ; وقد يحتمل النصب من وجه آخر ، وهو أن يكون موجها معناه : إلى أني جزيتهم اليوم بما صبروا ; لأنهم هم الفائزون بما صبروا في الدنيا ، على ما لقوا في ذات الله ، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " إني " بكسر الألف منها ، بمعنى الابتداء ، وقالوا : ذلك ابتداء من الله مدحهم .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الألف ; لأن قوله : " جزيتهم " ، قد عمل في الهاء والميم ، والجزاء إنما يعمل في منصوبين ، وإذا عمل في الهاء والميم لم يكن له العمل في " أن " فيصير عاملا في ثلاثة إلا أن ينوي به التكرير ، فيكون نصب " أن " حينئذ بفعل مضمر ، لا بقوله : جزيتهم ، وإن هي نصبت بإضمار لام لم يكن له أيضا كبير معنى ; لأن جزاء الله عباده المؤمنين بالجنة إنما هو على ما سلف من صالح أعمالهم في الدنيا ، وجزاؤه إياهم ، وذلك في الآخرة هو الفوز ، فلا معنى لأن يشرط لهم الفوز بالأعمال ثم يخبر أنهم إنما فازوا ، لأنهم هم الفائزون .
فتأويل الكلام إذ كان الصواب من القراءة ما ذكرنا : إني جزيتهم اليوم الجنة بما صبروا في الدنيا على أذاكم بها في أنهم اليوم هم الفائزون بالنعيم الدائم والكرامة الباقية أبدا ; بما عملوا من صالحات الأعمال في الدنيا ، ولقوا في طلب رضاي من المكاره فيها .