القول في تأويل
قوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( 2 ) )
يقول تعالى ذكره : من زنى من الرجال أو زنت من النساء ، وهو حر بكر غير محصن بزوج ، فاجلدوه ضربا مائة جلدة ، عقوبة لما صنع وأتى من معصية الله . (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) يقول تعالى ذكره : لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون رأفة ،
[ ص: 91 ] وهي رقة الرحمة في دين الله ، يعني في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحد عليهما على ما ألزمكم به .
واختلف أهل التأويل في المنهي عنه المؤمنون من أخذ الرأفة بهما ، فقال بعضهم : هو ترك إقامة حد الله عليهما ، فأما إذا أقيم عليهما الحد فلم تأخذهم بهما رأفة في دين الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبو هشام ، قال : ثنا
يحيى بن أبي زائدة ، عن
نافع ، عن
ابن عمر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة ، عن
عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، قال : جلد
ابن عمر جارية له أحدثت ، فجلد رجليها ، قال
نافع : وحسبت أنه قال : وظهرها ، فقلت : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فقال : وأخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها .
حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=12531عبد الله بن أبي مليكة يقول : ثني
عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، أن
عبد الله بن عمر حد جارية له ، فقال للجالد ، وأشار إلى رجلها ، وإلى أسفلها ، قلت : فأين قول الله : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : أفأقتلها؟ .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فقال : أن تقيم الحد .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : لا تضيعوا حدود الله .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : وقال
مجاهد : (
ولا تأخذكم بهما رأفة ) : لا تضيعوا الحدود في أن تقيموها ، وقالها
عطاء بن أبي رباح .
حدثنا
أبو هشام ، قال : ثنا
عبد الملك وحجاج ، عن
عطاء (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : يقام حد الله ولا يعطل ، وليس بالقتل .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثني
nindex.php?page=showalam&ids=17011محمد بن فضيل ، عن
داود ، عن
سعيد بن جبير ، قال : الجلد .
حدثني
عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17011محمد بن فضيل ، عن
المغيرة ، عن
إبراهيم ، في قوله : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : الضرب .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
المعتمر ، قال : سمعت
عمران ، قال : قلت
[ ص: 92 ] لأبي مجلز : (
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ) . . إلى قوله : ( واليوم الآخر ) إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل حدا ، أو تقطع يده قال : إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم الحد .
حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
الثوري ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : لا تقام الحدود .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
ولا تأخذكم بهما رأفة ) فتدعوهما من حدود الله التي أمر بها وافترضها عليهما .
قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : أخبرنا
ابن لهيعة ، عن
خالد بن أبي عمران ، أنه سأل
سليمان بن يسار ، عن قول الله : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) أي في الحدود أو في العقوبة؟ قال : ذلك فيهما جميعا .
حدثنا
عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا
يحيى بن زكريا ، عن
عبد الملك بن أبي سليمان ، عن
عطاء في قوله : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : أن يقام حد الله ولا يعطل ، وليس بالقتل .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
جرير ، عن
عطاء ، عن
عامر في قوله : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : الضرب الشديد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : (
ولا تأخذكم بهما رأفة ) فتخففوا الضرب عنهما ، ولكن أوجعوهما ضربا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثنا
يحيى بن أبي بكر ، قال : ثنا
أبو جعفر ، عن
قتادة ، عن
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : الجلد الشديد .
قال : ثنا
محمد بن جعفر ، عن
شعبة ، عن
حماد ، قال : يحد القاذف والشارب وعليهما ثيابهما . وأما الزاني فتخلع ثيابه . وتلا هذه الآية : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فقلت
لحماد : أهذا في الحكم؟ قال : في الحكم والجلد .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
الزهري ، قال : يجتهد في حد الزاني والفرية ، ويخفف في حد الشرب . وقال
قتادة : يخفف في
[ ص: 93 ] الشراب ، ويجتهد في الزاني .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا تأخذكم بهما رأفة في إقامة حد الله عليهما الذي افترض عليكم إقامته عليهما .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لدلالة قول الله بعده : " في دين الله " ، يعني في طاعة الله التي أمركم بها . ومعلوم أن دين الله الذي أمر به في الزانيين : إقامة الحد عليهما ، على ما أمر من جلد كل واحد منهما مائة جلدة ، مع أن الشدة في الضرب لا حد لها يوقف عليه ، وكل ضرب أوجع فهو شديد ، وليس للذي يوجع في الشدة حد لا زيادة فيه فيؤمر به . وغير جائز وصفه جل ثناؤه بأنه أمر بما لا سبيل للمأمور به إلى معرفته ، وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي للمأمورين إلى معرفته السبيل ، هو عدد الجلد على ما أمر به ، وذلك هو إقامة الحد على ما قلنا .
وللعرب في الرأفة لغتان : الرأفة بتسكين الهمزة ، والرآفة بمدها ، كالسأمة والسآمة ، والكأبة والكآبة . وكأن الرأفة المرة الواحدة ، والرآفة المصدر ، كما قيل : ضؤل ضآلة مثل فعل فعالة ، وقبح قباحة .
وقوله : (
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) يقول : إن كنتم تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر ، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة ، وللثواب والعقاب ، فإن من كان بذلك مصدقا ، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه ; خوف عقابه على معاصيه . وقوله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) يقول تعالى ذكره : وليحضر جلد الزانيين البكرين وحدهما إذا أقيم عليهما طائفة من المؤمنين .
والعرب تسمي الواحد فما زاد : طائفة . ( من المؤمنين ) يقول : من أهل الإيمان بالله ورسوله .
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ عدد الطائفة الذي أمر الله بشهود عذاب الزانيين البكرين ، فقال بعضهم : أقله واحد .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : الطائفة : رجل .
حدثنا
علي بن سهل بن موسى بن إسحاق الكناني وابن القواس ، قالا ثنا
يحيى بن عيسى ، عن
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قول الله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : الطائفة رجل . قال
علي : فما فوق ذلك ; وقال
ابن القواس :
[ ص: 94 ] فأكثر من ذلك .
حدثنا
علي ، قال : ثنا
زيد ، عن
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : الطائفة : رجل .
حدثنا
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، قال : قال
ابن أبي نجيح : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال
مجاهد : أقله رجل .
حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
هشيم ، قال : أخبرنا
أبو بشر ، عن
مجاهد ، في قوله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : الطائفة : الواحد إلى الألف .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
محمد بن جعفر ، قال : ثنا
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
مجاهد في هذه الآية : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : الطائفة واحد إلى الألف . (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثني
nindex.php?page=showalam&ids=17282وهب بن جرير ، قال : ثنا
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
مجاهد ، قال : الطائفة : الرجل الواحد إلى الألف ، قال : (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) إنما كانا رجلين .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : سمعت
عيسى بن يونس ، يقول : ثنا
النعمان بن ثابت ، عن
حماد وإبراهيم قالا : الطائفة : رجل .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
الثوري ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : الطائفة : رجل واحد فما فوقه .
وقال آخرون : أقله في هذا الموضع رجلان .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، قال : ثنا
ابن أبي نجيح ، في قوله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : قال
عطاء : أقله رجلان .
حدثني
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : أخبرني
عمر بن عطاء ، عن
عكرمة قال : ليحضر رجلان فصاعدا .
وقال آخرون : أقل ذلك ثلاثة فصاعدا .
[ ص: 95 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثنا
عيسى بن يونس ، عن
ابن أبي ذئب ، عن
الزهري ، قال : الطائفة : الثلاثة فصاعدا .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : نفر من المسلمين .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، مثله .
حدثني
أبو السائب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15730حفص بن غياث ، قال : ثنا
أشعث ، عن أبيه ، قال : أتيت
أبا برزة الأسلمي في حاجة ، وقد أخرج جارية إلى باب الدار ، وقد زنت ، فدعا رجلا فقال : اضربها خمسين! فدعا جماعة ، ثم قرأ : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) .
حدثنا
أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا
يحيى ، عن
أشعث ، عن أبيه ، أن
nindex.php?page=showalam&ids=88أبا برزة أمر ابنه أن يضرب جارية له ولدت من الزنا ضربا غير مبرح ، قال : فألقى عليها ثوبا وعنده قوم ، وقرأ : (
وليشهد عذابهما ) . . الآية .
وقال آخرون : بل أقل ذلك أربعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : فقال : الطائفة التي يجب بها الحد أربعة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين : الواحد فصاعدا ; وذلك أن الله عم بقوله : (
وليشهد عذابهما طائفة ) والطائفة : قد تقع عند
العرب على الواحد فصاعدا .
فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره وضع دلالة على أن مراده من ذلك خاص من العدد ، كان معلوما أن حضور ما وقع عليه أدنى اسم الطائفة ذلك المحضر مخرج مقيم الحد مما أمره الله به بقوله : (
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) غير أني وإن كان الأمر على ما وصفت ، أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته على الزنا ; لأن ذلك إذا كان كذلك ، فلا خلاف بين الجمع أنه قد أدى المقيم الحد ما عليه في ذلك ، وهم فيما دون ذلك مختلفون .