القول في تأويل
قوله تعالى : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( 22 ) )
يقول تعالى ذكره : ولا يحلف بالله ذوو الفضل منكم ، يعني : ذوي التفضل والسعة ، يقول : وذوو الجدة .
واختلف القراء في قراءة قوله : ( ولا يأتل ) فقرأته عامة قراء الأمصار . ( ولا يأتل ) بمعنى : يفتعل من الألية ، وهي القسم بالله ، سوى
أبي جعفر وزيد بن أسلم ، فإنه ذكر عنهما أنهما قرآ ذلك " ولا يتأل " بمعنى : يتفعل ، من الألية .
[ ص: 136 ] والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( ولا يأتل ) بمعنى : يفتعل من الألية ، وذلك أن ذلك في خط المصحف كذلك ، والقراءة الأخرى مخالفة خط المصحف ، فاتباع المصحف مع قراءة جماعة القراء وصحة المقروء به أولى من خلاف ذلك كله ، وإنما عني بذلك
أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حلفه بالله لا ينفق على
مسطح ، فقال جل ثناؤه : ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها المؤمنون بالله ألا يعطوا ذوي قرابتهم ، فيصلوا به أرحامهم ،
كمسطح ، وهو ابن خالة أبي بكر ( والمساكين ) يقول : وذوي خلة الحاجة ، وكان
مسطح منهم ; لأنه كان فقيرا محتاجا ( والمهاجرين في سبيل الله ) وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم في جهاد أعداء الله ، وكان
مسطح منهم ; لأنه كان ممن هاجر من
مكة إلى
المدينة ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بدرا ( وليعفوا ) يقول : وليعفوا عما كان منهم إليهم من جرم ، وذلك كجرم
مسطح إلى
أبي بكر في إشاعته على ابنته
عائشة ما أشاع من الإفك ، ( وليصفحوا ) يقول : وليتركوا عقوبتهم على ذلك ، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك ، ولكن ليعودوا لهم إلى مثل الذي كانوا لهم عليه من الإفضال عليهم ، (
ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) يقول : ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضالكم عليهم ، فيترك عقوبتكم عليها ( والله غفور ) لذنوب من أطاعه واتبع أمره ، ( رحيم ) بهم أن يعذبهم مع اتباعهم أمره ، وطاعتهم إياه على ما كان لهم من زلة وهفوة قد استغفروه منها ، وتابوا إليه من فعلها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن
الزهري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16590علقمة بن وقاص الليثي ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، وعن
عروة بن الزبير ، وعن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن
عائشة ، قال : وثني
ابن إسحاق ، قال : ثنا
يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن
عائشة ، قال : وثني
ابن إسحاق ، قال : ثني
nindex.php?page=showalam&ids=16397عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16693عمرة بنت عبد الرحمن ، عن
عائشة ، قالت : لما نزل هذا ، يعني قوله : (
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) في
عائشة ، وفيمن قال لها ما قال قال
أبو بكر ، وكان ينفق على
مسطح لقرابته وحاجته : والله لا أنفق على
مسطح شيئا أبدا ، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة ما قال ، وأدخل عليها
[ ص: 137 ] ما أدخل ، قالت : فأنزل الله في ذلك (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) . . الآية . قالت : فقال
أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى
مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .
حدثني
علي ، قال ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) يقول : لا تقسموا ألا تنفعوا أحدا .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) . . إلى آخر الآية ، قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رموا
عائشة بالقبيح ، وأفشوا ذلك وتكلموا به ، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم
أبو بكر ، ألا يتصدق على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصله ، فقال : لا يقسم أولو الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم ، وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك . فأمر الله أن يغفر لهم وأن يعفى عنهم .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) : لما أنزل الله تعالى ذكره عذر
عائشة من السماء ، قال
أبو بكر وآخرون من المسلمين ، والله لا نصل رجلا منهم تكلم بشيء من شأن
عائشة ولا ننفعه ، فأنزل الله (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) يقول : ولا يحلف .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ) قال : كان
مسطح ذا قرابة . ( والمساكين ) قال : كان مسكينا ( والمهاجرين في سبيل الله ) كان بدريا .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) قال :
أبو بكر حلف أن لا ينفع يتيما في حجره كان أشاع ذلك ، فلما نزلت هذه الآية قال : بلى أنا أحب أن يغفر الله لي ، فلأكونن ليتيمي خير ما كنت له قط .