القول في تأويل قوله تعالى : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ( 36 )
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ( 37 )
ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ( 38 ) )
يعني تعالى ذكره بقوله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) الله نور السماوات
[ ص: 189 ] والأرض ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، في بيوت أذن الله أن ترفع .
كما حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد : المشكاة التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح ، قال : المصابيح في بيوت أذن الله أن ترفع .
قال
أبو جعفر : قد يحتمل أن تكون " من " في صلة " توقد " ، فيكون المعنى : توقد من شجرة مباركة ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع ، وعنى بالبيوت المساجد .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، قالا ثنا
حكام ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
أبي صالح في قول الله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : المساجد .
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس في قوله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) وهي المساجد تكرم ، ونهى عن اللغو فيها .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني كل مسجد يصلى فيه ، جامع أو غيره .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : مساجد تبنى .
حدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثله .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
الحسن ، في قوله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : في المساجد .
قال : أخبرنا
معمر ، عن
أبي إسحاق ، عن
عمرو بن ميمون ، قال : أدركت أصحاب رسول الله وهم يقولون : المساجد بيوت الله ، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
ابن المبارك ، عن
سالم بن عمر في قوله :
[ ص: 190 ] (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : هي المساجد .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد في قوله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : المساجد .
وقال آخرون : عنى بذلك البيوت كلها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، قالا حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15738حكام بن سلم ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
عكرمة (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : هي البيوت كلها .
إنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ; لدلالة قوله : (
يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) على أنها بيوت بنيت للصلاة ، فلذلك قلنا هي المساجد .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (
أذن الله أن ترفع ) فقال : بعضهم معناه : أذن الله أن تبنى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عصام ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
أذن الله أن ترفع ) قال : تبنى .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد مثله .
وقال آخرون : معناه : أذن الله أن تعظم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
الحسن ، في قوله : (
أذن الله أن ترفع ) يقول : أن تعظم لذكره .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، القول الذي قاله
مجاهد ، وهو أن معناه : أذن الله أن ترفع بناء ، كما قال جل ثناؤه : (
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع في البيوت والأبنية .
وقوله : (
ويذكر فيها اسمه ) يقول : وأذن لعباده أن يذكروا اسمه فيها . وقد قيل :
[ ص: 191 ] عني به أنه أذن لهم بتلاوة القرآن فيها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قال : ثم قال : (
ويذكر فيها اسمه ) يقول : يتلى فيها كتابه . وهذا القول قريب المعنى مما قلناه في ذلك ; لأن
تلاوة كتاب الله من معاني ذكر الله ، غير أن الذي قلنا به أظهر معنييه ، فلذلك اخترنا القول به .
وقوله : (
يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) .
اختلفت القراء في قراءة قوله : ( يسبح له ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( يسبح له ) بضم الياء وكسر الباء ، بمعنى يصلي له فيها رجال ، ويجعل يسبح فعلا للرجال ، وخبرا عنهم ، وترفع به الرجال ، سوى
عاصم وابن عامر ، فإنهما قرءا ذلك : " يسبح له " بضم الياء وفتح الباء ، على ما لم يسم فاعله ، ثم يرفعان الرجال بخبر ثان مضمر ، كأنهما أرادا : يسبح الله في البيوت التي أذن الله أن ترفع ، فسبح له رجال ، فرفعا الرجال بفعل مضمر ، والقراءة التي هي أولاهما بالصواب ، قراءة من كسر الباء ، وجعله خبرا للرجال وفعلا لهم . وإنما كان الاختيار رفع الرجال بمضمر من الفعل لو كان الخبر عن البيوت ، لا يتم إلا بقوله : ( يسبح له فيها ) ، فأما والخبر عنها دون ذلك تام ، فلا وجه لتوجيه قوله : ( يسبح له ) إلى غيره أي غير الخبر عن الرجال . وعني بقوله : (
يسبح له فيها بالغدو والآصال ) يصلي له في هذه البيوت بالغدوات والعشيات رجال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا
المعافى بن عمران ، عن
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16650عمار الدهني عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، قال : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة .
حدثني
علي ، قال ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قال : ثم قال : (
يسبح له فيها بالغدو والآصال ) يقول : يصلي له فيها بالغداة والعشي ،
[ ص: 192 ] يعني بالغدو : صلاة الغداة ، ويعني بالآصال : صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة ، فأحب أن يذكرهما ، ويذكر بهما عباده .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
الحسن (
يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ) أذن الله أن تبنى ، فيصلى فيها بالغدو والآصال .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول في قوله : (
يسبح له فيها بالغدو والآصال ) يعني الصلاة المفروضة .
وقوله : (
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) يقول تعالى ذكره : لا يشغل هؤلاء الرجال الذين يصلون في هذه المساجد ، التي أذن الله أن ترفع ، عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة - تجارة ولا بيع .
كما حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
محمد بن جعفر ، قال : ثنا
شعبة ، عن
سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) . . إلى قوله : ( والأبصار ) قال : هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم ; لا تلهيهم تجاراتهم ، ولا بيوعهم عن ذكر الله .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثنا
جعفر بن سليمان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15959سالم بن عبد الله أنه نظر إلى قوم من السوق ، قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة ، فقال : هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه (
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) . . الآية .
قال : ثنا
الحسين ، قال : ثنا
هشيم ، عن
سيار ، عمن حدثه ، عن
ابن مسعود ، نحو ذلك .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
هشيم ، عن
سيار ، قال : حدثت عن
ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة ، تركوا بياعاتهم ، ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه (
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) .
وقال بعضهم : معنى ذلك : (
لا تلهيهم تجارة ولا بيع ) عن صلاتهم المفروضة عليهم .
[ ص: 193 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قال : ثم قال : (
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) يقول : عن الصلاة المكتوبة .
قوله : ( وإقام الصلاة ) يقول : ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها .
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : ثنا
محمد ، قال : ثنا
عوف ، عن
سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي
عوف اسمه في ( وإقام الصلاة ) قال : يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة .
فإن قال قائل : أوليس قوله : ( وإقام الصلاة ) مصدرا من قوله : أقمت؟ قيل : بلى . فإن قال : أوليس المصدر منه إقامة ، كالمصدر من آجرت إجارة؟ قيل : بلى . فإن قال : وكيف قال : ( وإقام الصلاة ) أوتجيز أن نقول : أقمت إقاما؟ قيل : ولكني أجيز أعجبني إقام الصلاة . فإن قيل : وما وجه جواز ذلك؟ قيل : إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال : إقواما ، كما يقال : أقعدت فلانا إقعادا ، وأعطيته إعطاء . ولكن العرب لما سكنت الواو من أقمت فسقطت لاجتماعها ، وهي ساكنة ، والميم وهي ساكنة ، بنوا المصدر على ذلك ، إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة ، فسقطت الأولى منهما ، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف ، كما فعلوا ذلك في قولهم : وعدته عدة ، ووزنته زنة ، إذ ذهبت الواو من أوله ، كثروه من آخره بالهاء ; فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة ، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير وهي الهاء في آخرها ; لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد ، فاستغنوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد ، وقد قال بعضهم في نظير ذلك :
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا
[ ص: 194 ] يريد : عدة الأمر . فأسقط الهاء من العدة لما أضافها ، فكذلك ذلك في إقام الصلاة .
وقوله (
وإيتاء الزكاة ) قيل : معناه وإخلاص الطاعة لله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
عبد الله ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) (
وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ) ، وقوله : ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ) ، وقوله : (
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ) ، وقوله : (
وحنانا من لدنا وزكاة ) ونحو هذا في القرآن ، قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص ، وقوله : (
يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) يقول : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله بين طمع بالنجاة ، وحذر بالهلاك ، والأبصار : أي ناحية يؤخذ بهم ، أذات اليمين أم ذات الشمال ، ومن أين يؤتون كتبهم ، أمن قبل الأيمان ، أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة .
كما حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16455عبد الله بن عياش ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم في قول الله : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ) . . إلى قوله : (
تتقلب فيه القلوب والأبصار ) : يوم القيامة .
وقوله : (
ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) يقول : فعلوا ذلك ، يعني أنهم لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا ربهم ; مخافة عذابه يوم القيامة ، كي يثيبهم الله يوم القيامة بأحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، ويزيدهم على ثوابه إياهم على أحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا من فضله ، فيفضل عليهم من عنده بما أحب من كرامته لهم . وقوله : (
والله يرزق من يشاء بغير حساب ) يقول تعالى ذكره : يتفضل على من شاء وأراد من طوله وكرامته ، مما لم يستحقه بعمله ، ولم يبلغه بطاعته ( بغير حساب ) ، يقول : بغير
[ ص: 195 ] محاسبة على ما بذل له وأعطاه .